قدم هذا البحث لمجلة البحوث والدراسات الشرعية ونشر بالعدد الثاني عشر – رمضان 1434
تمهيد
بسم الله والحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ عن ربه فأتم البلاغ، وبين لنا شرائع ديننا في شتى مناحي الحياة، حتى غبطنا على بيانه أهل الكتاب. فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع ملته إلى يوم الدين. أما بعد،
فمن النوازل المعاصرة ظهور ما يعرف بالمخدرات وانتشارها في أنحاء العالم كافة. وهذه المواد لها عدة تأثيرات ضارة على البدن، ولكنها في نفس الوقت تسكن الآلام، ومن ثم يستعملها كثير من الأطباء في مداواة المصابين بعلل شديدة تسبب لهم آلامًا مبرحة. ومن هؤلاء الأطباء المتوسع في هذا الباب والمضيق.
ومنذ ظهور تلك المخدرات في بلاد المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري اتفق أهل العلم على تحريمها، ولكنهم اختلفوا في تكييفها الفقهي، فمنهم من عدها نوعًا من الخمور، ومنهم من اكتفى بالتحريم لتغييبها للعقل، ولم يعدها من الخمر التي يقام على شاربها الحد. والخلاف ليس شكليًا، فبالإضافة إلى مسألة العقوبة، فإنه لو كانت تلك المخدرات خمرًا لما حل التداوي بصرفها عند أكثر العلماء إذ يقولون بحرمة التداوي بالخمر الصرفة.
ولقد طلب مني كتابة بحث في موضوع التداوي بالمخدرات لتقديمه إلى المؤتمر السنوي التاسع لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، والمقام بدولة الكويت بجمادى الآخرة من سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وألف، فأجبت إلى ذلك.
وقد قسمت هذا البحث إلى تمهيد وثلاثة مطالب، وهي:
المطلب الأول: حكم التداوي بالمحرمات عامة والخمر خاصة
المطلب الثاني: تكييف المخدرات الفقهي وهل هي خمر
المطلب الثالث: حكم التداوي بالمخدرات
المطلب الأول: حكم التداوي بالمحرمات عامة والخمر خاصة
اتفق الفقهاء على عدم جواز التداوي بالمحرم والنجس من حيث الجملة، كما اتفقوا على عدم جواز التداوي بالمحرم مع وجود البديل الحلال،([1]) وأكثر أهل العلم على عدم جواز التداوي بالخمر الصرفة. ([2]) ولكنهم اختلفوا في تفاصيل التداوي بالمحرمات، فأباح الحنفيةالتداوي بالنجس والمحرم إن علم أن فيه شفاء، ولم يوجد بديل، وأولوا ما جاء في المنع على أنه بخصوص داء عرف له دواء غير المحرم، أو أن الحرمة تنكشف عند الحاجة. ([3]) وعمم المالكية المنع في كل نجس ومحرم مخلوط أو صرف مشروب أو طلاء إلا الطلاء يخشى بتركه الموت. ([4]) ومنع الشافعية من المسكر، ولكن المذهب جواز النجس والمحرم الصرف سوى المسكر. ([5]) أما المستهلك في دواء آخر فيجوز اتفاقًا عندهم إن عدم البديل.([6]) أما الحنابلة فمنعوا كل مستخبث كبول مأكول اللحم إلا الإبل وجوزوا الدواء المسموم إن غلبت منه السلامة والتداوي بالمحرم والنجس من غير أكل أو شرب،([7]) كما صرحوا بتحريم التداوي بسماع الغناء المحرم لعموم نهيهﷺ.([8])
وحجة من منع من التداوي بالمحرمات ما يأتي:
- روى أبو داود عن أبي الدرداء t قال: قال رسول اللهﷺ: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ».
- وعن أبي هريرة: أَنَّهُﷺ: «نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ» أبو داود.
- وقال ابن القيم: «المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها كما حرمه على نبي إسرائيل، بقوله: “فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ” وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه وتحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن لسقم القلب» ([9])
ولمن جوز الاستدلال بالضرورة وبما يأتي:
- روى أبو داود عن عبد الرحمن بن طرفة أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍفَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّﷺ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ.
- وعن أنس أَنَّ النَّبِيَّﷺ رَخَّصَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. (ق)
- وحديث العرنيين عند القائل بنجاسة أبوال الإبل وفيه عن أنس رضي الله عنه: «أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْخَمُوا الْأَرْضَ وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِﷺ فَقَالَ أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَقَالُوا بَلَى فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَصَحُّوا»([10])
وقد يجاب عن الأولين بأن تلك المحرمات من محرمات الوسائل لا المقاصد، وأنها اختصت من عموم النهي، ويجاب عن الأخير بالمعارضة في حكم أبوال الإبل، إذ المالكية والحنابلة يقولون بطهارة أبوال مأكول اللحم.
والراجح بالنسبة للتداوي بعموم المحرمات أن المنع منها إنما يكون عند وجود البدائل، أما عند عدمها ووجود الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلتها، فإن ضرورة التداوي تبيح استعمال المحرمات. ولقد ذهب بعض أجلة علمائنا إلى القول بأن التداوي لا يكون ضرورة، وذلك لتفسير نهيهﷺ عن التداوي بحرام. قال الإمام ابن تَيمِيَّة رحمه الله: «التحقيق أن من التداوي ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، ليس التداوي بضرورة بخلاف أكل الميتة»([11]). وقال: «وليس هذا [التداوي بالمحرم] مثل أكل المضطر للميتة فإن ذلك يحصل به المقصود قطعا وليس له عنه عوض والأكل منها واجب. فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار. وهنا لا يعلم حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء بل الله تعالى يعافي العبد بأسباب متعددة، والتداوي ليس بواجب عند جمهور العلماء ولا يقاس هذا بهذا والله أعلم»([12]). وقال فخر الدين الزيلعي: «ولو أخبره طبيب بالدواء فلم يتداو حتى مات لا يأثم بخلاف ما إذا جاع، ولم يأكل مع القدرة عليه حتى مات حيث يأثم ؛ لأن زوال الجوع بالأكل متيقن به باعتبار العادة فإن الله أجرى العادة بإزالة الجوع، وخلق الشبع عند الأكل لا يتخلف عنه أصلا بخلاف المرض عند التداوي فإنه في حيز التردد».([13])
ولكن التداوي في زماننا لا يشبه التداوي في أزمنة مضت، كما يقر بذلك جمهور العقلاء. إن نفع الدواء من الداء يصل في بعض الأحيان إلى مرحلة غلبة الظن المقاربة جدًا لليقين. إن المتقدمين من العلماء كانت ثقتهم بالطب دون ثقة أهل زماننا به وذلك لما قدمنا من الفارق الشاسع بين الطب في زمانهم وزماننا. ولعل ما قاله شيخ الإسلام أقرب إلى الصواب في زمانه، وليس الأمر كذلك في زماننا، ولذلك قال الشيخ ابن عاشور – رحمه الله -: عند تفسير قوله تعالى: “فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” ([14]). «ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي، فقيل لا يتداوى بهذه المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر، وهو قول مالك والجمهور ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إن لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلا ما جرب منها. وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسًا على أكل المضطر وإلا فلا»([15]). وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العُثَيْمِين – رحمه الله -: إن جراحي القلوب قد يضعون عرقًا أو شريانا مَعْدِنيا، وقد يضعون، أيضًا، شريانا يأخذونه من الخنزير، مع أن الشريان الذي من المَعْدِن قد يصيبه الصدى، والشريان الذي من الخنزير يكون أحسن، وقد يلتحم ويصير وكأنه من الإنسان نفسه، فما حكم ذلك؟ فأجاب:«لا بأس به، أي لا بأس أن يصل إنسان شريان قلبه بشريان حيوان آخر، وينظر إلى ما هو أنسب لقلبه؛ لأن هذا ليس من الأكل، إنما حرم الله أكل الخنزير، وهذا ليس أكلًا، وإذا علمنا أنه لا ينفعه إلا هذا، فهذا من باب الضرورة، وقد قال الله تعالى في أكل لحم الخنزير الأكل المباشر: “وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ” ([16]) ([17]).
والذي أراه أن الاختلاف بين متقدمي الحنابلة ومتأخريهم كابن عُثَيْمِين، ومتقدمي المالكية ومتأخريهم كابن عاشور، إنما يرجع لمرحلة تحقيق المناط من صناعة الفتوى، وهو أن يحقق المجتهد وجود العلة في الفرع. والعلة في إباحة أكل الميتة للمضطر هي حفظ الحياة، فهل في التداوي بمحرم يصفه الطبيب حفظ للحياة؟ المتقدمون لم يروا ذلك لكثرة أغلاط الأطباء وقلة حيلة الطب في أزمنتهم، بينما ظهر للمتأخرين من خلال الواقع الجديد للصناعة الطبية أن في التداوي بما يصفه الطبيب حفظًا للحياة في أغلب الظن.
وليس النفع من الدواء في أزمنتنا متوهمًا، بل يكون يقينيًا أحيانًا ويغلب به الظن في أحيان أخرى. وقد قال الشاطبي في الاعتصام: الحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام. وفي معالم القربة في حديث المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن أحدهما([18]): «قال بعض الفقهاء ففي هذا الحديث من الفقه جواز الحكم بغلبة الظن» وفي القواعد للمُقري: المشهور من مذهب مالك أن الغالب مساوٍ للمحقق في الحكم. وفي منظومة القواعد للسعدي:
وإن تعـذر اليقيـن فارجعـا لغـالب الظـن تكن متبعا
قال تعالى: “فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ” ولا سبيل إلى اليقين هنا. وعن أم سلمة أنه قال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له…(ق)
ومن أمثلة اليقين في حصول النفع من الأدوية المعاصرة المحرمة في أصلها: التخدير في الجراحة والإنسولين الخنزيري لمريض السكر عند فقد البديل. بقي أن الضرورة تقدر بقدرها وأن ما جاز لعذر بطل بزواله.
وأما قول الحنابلة بالمنع من المستخبث لحديث أبي هريرة أَنَّهُﷺ «نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ» سنن أبي داود، ولقوله تعالى: “وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ” فيجاب عليه بأن الخبيث في الحديث بمعنى المحرم وأن أبوال الإبل مستخبثة ولا وجه لاستثنائهم إياها، وقد قال رسول اللهﷺ: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء» البخاري وأبي هريرة.
وأما حكم التداوي بالخمر الصرفة خصوصًا، فقد نقل جوازه عن بعض الحنفية([19]) والشافعية([20]) وبه قال ابن حزم، ومذهب الحنفية والشافعية على خلافه، وكذلك مذهب سائر أهل السنة. والتحريم هو الصواب وقد تظاهرت عليه الأدلة، وأهمها ما رواه مسلم أن طارق بن سُوَيْد الجُعْفيt سأل النبيﷺ عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فقال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» مسلم. أما معجون الخمر وما يجعل من المسكر في الدواء إلم يكن صرفًا، فجماعة ممن منعوا الصرف أذنوا فيه. ([21])
وفي قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة عن الكحول في الدواء : «الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد : فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 21-26/10/1422هـ الذي يوافقه من: 5-10/1/2002م، وبعد النظر في الأبحاث المقدمة عن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات، والمداولات التي جرت حولها، وبناء على ما اشتملت عليه الشريعة من رفع الحرج، ودفع المشقة، ودفع الضرر بقدره، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين لدرء أعلاهما، قرر ما يلي : لا يجوز استعمال الخمرة الصرفة دواءً بحال من الأحوال؛ لقول رسول اللهﷺ: «إنَّ اللهَ لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّم عَلَيْكُمْ» رواه البخاري. ولقوله: «إنَّ اللهَ أنزَل الدَّاءَ، وجعَل لِكُلِّ داءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، ولا تَتَدَاوَوْا بحَرَامٍ» رواه أبو داود وابن السُّني وأبو نعيم. وقال لطارق بن سويد – لما سأله عن الخمر يُجعَلُ في الدواء-: «إنَّ ذلك لَيْسَ بِشِفَاءٍ ولَكِنَّه دَاءٌ» رواه ابن ماجه في وأبو نعيم »
المطلب الثاني: تكييف المخدرات الفقهي وهل هي خمر
تعريف الخمـــر والسكر لغة واصطلاحًا:
للخمر تعريفات كثيرة، ولكنها تدورحول معاني التغطية والستر والمخالطة والخفاء، ففي لسان العرب: «خمر: خامر الشيء قاربه وخالطه…و الخمر: ما أسكر من عصير العنب لأنها خامرت العقل. والتخمير التغطية، يقال: خمر وجهه و خمر إناءك. والمخامرة: المخالطة وقال أبو حنيفة: قد تكون الخمر من الحبوب فجعل الخمر من الحبوب قال ابن سيده: وأظنه تسمحا منه لأن حقيقة الخمر إنما هي العنب دون سائر الأشياء…» ([22])
وفي معجم مقاييس اللغه:«(خمر) الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر. فالخمر الشراب المعروف. قال الخليل الخمر معروفة واختمارها إدراكها وغليانها ومخمرها متخذها وخمرتها ما غشي المخمور من الخمار والسكر في قلبه . وأصله ما وارى الإنسان من شجر قال أبو ذؤيب: فليتهم حذورا جيشهم عشية هم مثل طير الخمر»([23]).
وقال الزبيدي: «.. ما أسكر من عصيرِ كلِّ شيء، لأن المدارَ على السُّكْرِ وغيبوبةِ العقل، وهو الذي اختاره الجماهير. وسُمي الخمر خمراً لأنها تخمر العقل وتستره، أو لأنها تُركت حتى أدركت واختمرت..»([24])
وكما اختلف أهل اللغة في تعريف الخمر اختلف الفقهاء فذهب أهل المدينة والحجازيون وأهل الحديث والحنابلة وبعض الشافعية إلى أن الخمر تطلق على كل ما يسكر وذهب أكثر الشافعية وأبو يوسف ومحمد من الحنفية وبعض المالكية إلى أن الخمر هي المسكر من عصير العنب.([25])
ولكننا لن نتوسع في تعريفات الخمر وفيما عده أهل العلم خمرًا وما اختلفوا فيه، ولا في الحقيقة من ذلك والمجاز، إذ نكتفي بقول رسول اللهﷺ: «كل مسكر خمر…» متفق عليه.
ولكن الذي يحتاج إلى تحرير في مقامنا هذا هو تعريف المسكر والسكر. ولقد جاء في لسان العرب: «سكر السكران خلاف الصاحي السكر نقيض الصحو السكر ثلاثة سكر الشباب سكر المال سكر السلطان … والاسم السكر بالضم أسكره الشراب والجمع سكارى سكارى سكرى. قوله تعالى «وترى الناس سكارى وما هم بسكارى»… وقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى قال ثعلب إنما قيل هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر وقال غيره إنما عنى هنا سكر النوم … وقوله تعالى وجاءت سكرة الموت بالحق سكرة الميت غشيته التي تدل الإنسان على أنه ميت وقوله بالحق أي بالموت الحق قال ابن الأعرابي السكرة الغضبة السكرة غلبة اللذة على الشباب…»([26])
من هذا التعريف تظهر وعورة تحديد معنى السكر من اللغة إذ له إطلاقات كثيرة منها ما هو أعم من زوال العقل وما هو أخص.
أما تعريفات الفقهاء، فقد قال ابن تيمية – رحمه الله -: «فإن السكر هو الطرب الذى يؤثر لذة بلا عقل فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل التى صدت عن ذكر الله وعن الصلاة وأوقعت العداوة.»([27])
وفي موسوعة الفقه الكويتية عن ضابط السكر: «اختلف الفقهاء في ضابط السكر فذهب جمهور الفقهاء – المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة – إلى أن ضابط السكر هو من اختلط كلامه وكان غالبه هذيانا فقد قال الشافعي في حده : إنه الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم وذهب أبو حنيفة إلى أن السكران هو الذي لا يعرف الأرض من السماء، والرجل من المرأة، وهو قول المزني من الشافعية». ([28])
وحاول ابن حجر تبيين الخلاف في إطلاق لفظ الإسكار فذكر أن الإسكار يطلق ويراد منه مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم ويطلق ويراد منه تغطية العقل مع نشوة وطرب وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق. وعلى ذلك فمن أطلق الإسكار على الحشيشة ونحوها أراد به المعنى الأخص وهو الإسكار مع النشوة والطرب.([29]) وقال العظيم أبادي – رحمه الله -: «والحق في ذلك خلاف الإطلاقين إطلاق الإسكار وإطلاق الإفساد وذلك أن الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أهم ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشوة وطرب وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق فعلى الإطلاق الأول بين المسكر والمخدر عموم مطلق إذ كل مخدر مسكر وليس كل مسكر مخدراً فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة ونحوهما المراد منه التخدير ومن نفاه عن ذلك أراد به معناه الأخص.» ([30])
أقوال الفقهاء في تكييف المخدرات وهل هي من المسكرات:
اتفق الفقهاءُ على أن المخدرات تورث الفتور والانكسار وخدر الأطراف واختلاط العقل، واختلفوا في اعتبارها مسكرة، فذهب أكثر الحنابلة والشافعية وبعض الحنفية([31]) والمالكية([32]) إلى ذلك ومنعه أكثر الحنفية والمالكية([33]) وبعض الشافعية والحنابلة. وممن يرى إلحاقها بالمسكر: ابن حجر العسقلاني([34]) والنووي([35]) وابن تيمية([36]) والزركشي([37])، بل نقل اتفاق الشافعية عليه([38]) والمنوفي من المالكية([39]) وابن القيم([40]) وابن حجر الهيتمي([41]) وابن عابدين([42]). وممن قال إن هذه المواد مخدرة وليست مسكرة القرافي([43]) والدسوقي([44]) والحطاب([45]) والعظيم آبادي([46]) وزكريا الأنصاري([47]) وابن حجر الهيتمي.([48])
أدلة القول الأول:
- قولهﷺ: «كل مسكر خمر…» مسلم، والإسكار الذي هو أثر شرب الخمر إنما هو ذهاب العقل، ولم تفرق الأدلة على تحريم المسكرات بين ما يخدر وما لا يخدر.([49])
- وعن ابن عمرt قال: سمعت عمرt على منبر النبيﷺ يقول: «أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل» البخاري ومسلم. (ق) قال ابن القيم: «وصح عن أصحابه الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده أن ـ الخمر ـ ما خامر العقل فدخول هذه الأنواع [الحشيش] تحت اسم الخمر كدخول جميع أنواع الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب تحت قولهﷺ: «ولا تبيعوا الذهب بالذهب». ([50])
- وقال تعالى: “وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ” ([51]) والمعنى أن شدة العذاب أصابهم بما يصيب السكران من الذهول، فالسكر لا يشترط فيه كل ما يعانيه شارب الخمر. ويجاب عليه بأن هذا الإطلاق غير السكر المراد في قولهﷺ: «كل مسكر خمر» مسلم، إذ هؤلاء المعذبون لم يغب عقلهم، فإن غيبوبته تخفيف عليهم، فالتشبيه هنا ليس من كل وجه. وقال تعالى: “إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا” ([52]). ومعنى سكرت هنا غطيت. ولا شك أن أصل السكر والتخمير من التغطية، ولكن يجاب على الاستدلال أنه إن كان كل مسكر يغطي العقل، فالعكس ليس صحيحًا بالضرورة.
- قوله تعالى: “إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ” ([53]). وهذه المخدرات تفعل ما تفعله الخمر من إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس. ويجاب على هذا بأنها حرمت من أجل ذلك، ولكنه لا يكفي لاعتبارها خمرًا يقام الحد على متعاطيها، إذ الميسر ذكر مع الخمر، وغيرهما كثير من الأمور التي توقع العداوة والبغضاء بين الناس، والمسكرات فيها لذة وطرب، بخلاف المخدرات. وأجيب على الجواب بأن الحكمة من تحريم المسكرات ما تؤدي إليه من اختلاط العقل وما تورثه من العداوة والبغضاء، والمخدِّرات أشد منها في الأمرين. أما اللذة والطرب، فلم يكن التحريم لأجلهما، وقيل إن المخدرات فيها لذة وطرب، ولولا ذلك لم يتناولها أحد. قال ابن تيمية – رحمه الله -: «.. وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب… »([54])وقال ابن حجر – رحمه الله -: «… وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة وجزم آخرون بأنها مخدرة وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها.» ([55])
- القياس على المسكرات. وقد يجاب عنه بأنه قياس مع الفارق إذ لا يخفى على من يعرف أحوال السكر أنه ليس كالخدر الذي يصيب متعاطي المخدرات.وليس في الثاني لذة وطرب، وأجيب بأنه لو لم يكن في المخدرات لذة وطرب لم يتعاطاها أحد، وقد يجاب بأنها تقلل من الإحساس بالألم الحسي والمعنوي وتضعف من إدراكهما، ومن ثم يتعاطاها الهاربون منهما.
- اتفاق الأطباء على أن المخدرات مسكرة. قال الزركشي في زهر العريش في تحريم الحشيش: «والذي أجمع عليه الأطباء والعلماء بأحوال النبات أنها مسكرة» ([56])والجواب بأن العبرة بما قصدوه من إطلاق الإسكار، والخلاف في تحديده واقع في اللغة وفي مصطلح الفقهاء، فلا يتوقع أن يسلم منه الأطباء، سيما أطباء ذاك الزمان.
أدلة القول الثاني:
- حديث أم سلمه-رضي الله عنها- سنن أبي داود ، أنَّ النبي نهى عن كل مُسكر ومُفْتر. وعطف المفتر على المسكر يقتضي المغايرة. وقد يجاب أنه من عطف الخاص على العام وأن المفتر غير المخدر.
- أن المخدرات لا تحدث نفس الأثر الذي تحدثه المخدرات.([57]) قال ابن حجر الهيتمي: «وتحقيقه أن من شأن السكر بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية ومن شأن السكر بنحو الحشيشة والجوزة أنه يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية وبقولي من شأنه فيهما يعلم رد ما أورده الزركشي على القرافي من أن بعض شربة الخمر يوجد فيه ما ذكر في نحو الحشيشة وبعض أكله نحو الحشيشة يوجد فيه ما ذكر في الخمر…» ([58])
الترجيح:
هناك وصف جامع مشترك بين المخدرات والخمر وهو تغييب العقل، ومن ثم الحرمة. قال ابن تيمية – رحمه الله -: (وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين). ([59]) بل يحتمل أن يكون في المخدرات من الوعيد ما في الخمر. قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله -: «فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات لاشتراكها في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر».([60]) ولكن الخلاف المهم هو في كونها خمرًا بجامع علة الإسكار. وإن الفقهاء في كلامهم عن حد السكر إنما يصفون مرحلة من المراحل التي يمر بها شارب الخمر فتقتضي العقوبة ولا يصفون تمام الحالة التي تغشاه منذ شربه للخمر وحتى يفيق، وهذه هي التي يقاس عليها إن أردنا إلحاق أي مادة بالخمر بجامع السكر. إنه رغم وعورة الترجيح في هذه المسألة، فإن الذي يظهر – والله تعالى أعلم – أن المخدرات حرام كما وقع عليه اتفاق أهل العلم، ولكن ليس لها حكم الخمر، لأن في إعطاء المخدرات حكم الخمر إيجاب للحد فيها، والحدود تدرأ، ولأن الإسكار الذي ذكره رسول اللهﷺ هو ما كان يعرف لديهم عند تعاطي الخمر, ولم يكونوا يعرفون هذه المخدرات وأثرها، لذلك فإن العرف المقارن للخطاب يرجح أن الإسكار الذي ينشأ عن تناول الخمر بما فيه من لذة ونشوة ونشاط وعربدة وحمية هو المعني في قولهﷺ: «كل مسكر خمر» مسلم سبق تخريجه، وكل ما كان مسكرًا في زمانهم إنما كان مشروبًا كحوليًا، وإن اختلف مصدره، وللكحول أعراض خاصة به لا تشاركه فيها المخدرات. وقد علم الأطباء أن المخدرات لا تصيب بكل الأعراض التي يعانيها شارب الخمر.
وهذه أعراض المسكرات والمخدرات إجمالًا([61]):
المخدرات | المسكرات |
---|---|
تختلف باختلاف نوعها، وهذه بعض أعراض الحشيش: حالة من الشعور الوهمي بالرضا يمكن تسميتها بالنشوة ولكنها لا تكون مصحوبة ضرورة بإثارة وانفعال كما في السكر بل بخدر وفتور وضعف في التركيز والإحساس بالزمان والمكان والأحوال؛ فقدان التوازن والدوار؛ زيادة ضربات القلب وسرعة التنفس وارتفاع في ضغط الدم، واحمرار في العينين وزيادة الشهية للطعام. | النشوة وعدم التوازن مع طرب وزيادة في الثقة وجرأة واحمرار في البشرة وضعف في التمييز والحكم على الأشياء ورعشة وانفعال وإثارة وضعف في الفهم والذاكرة وحركات مضطربة وضبابية الرؤية وارتباك ودوار وتلعثم وتقيؤ وغياب للوعي وإغماء. |
ولقد انتبه إلى تلك الفروق علماؤنا، فقال القرافي – رحمه الله -: «أنا نجدها تثير الخلط الكامن في الجسد كيفما كان فصاحب الصفراء تحدث له حدة وصاحب البلغم تحدث سباتاً وصمتاً وصاحب السوداء تحدث له بكاء وجزعاً وصاحب الدم تحدث له سروراً بقدر حاله فتجد منهم من اشتد بكاؤه ومنهم من يشتد صمته. وأما الخمر والمسكرات فلا تكاد تجد أحداً ممن يشربها إلا وهو نشوان مسرور بعيد عن صدور البكاء والصمت. ب ـ أنا نجد شراب الخمر تكثر عربدتهم ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح ويهجمون على الأمور العظيمة التي لا يهجمون عليها حالة الصحو وهو معنى قول الشاعر([62]): ونشربها فتتركنا ملوكاً … وأسداً ما ينهنهنا اللقاء. ولا نجد أكلة الحشيش إذا اجتمعوا يجري بينهم شيء من ذلك ولم يسمع عنهم من العوائد ما يسمع عن شراب الخمر بل هم همدة سكوت … فلهذين الوجهين أنا أعتقد أنها من المفسدات لا من المسكرات ولا أوجب فيها الحد ولا أبطل بها الصلاة بل التعزيز الزاجر عن ملامستها…»([63])
ولا أرى إلا أن القائلين بأنها من المسكرات من علمائنا قد انتبهوا أيضًا لتلك الفروق ولكنهم لم يعدوها مؤثرة، قال ابن تيمية – رحمه الله -: “وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها [الحشيشة] مسكرة، وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك. والخمر توجب الحركة والخصومة وهذه توجب الفتور واللذة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة مما يجعلها من شر الشراب المسكر…» ([64]) والذي يظهر لي أنها مؤثرة، إذ تحديد معنى السكر بغيبوبة العقل فقط لا يظهر، فثمة معان فيه زائدة على غيبوبة العقل.
المطلب الثالث: حكم التداوي بالمخدرات
هناك اتفاق بين العلماء على حرمة تناول القدر المؤثر على العقل من هذه المواد بقصد اللهو أو اللذة أو غير ذلك من المقاصد غير المعتبرة. قال في تهذيب الفروق: (اتفق فقهاء العصر على المنع من النبات المعروف بالحشيشة التي يتعاطاها أهل الفسوق أعني كثيرها المغيب للعقل.)([65]) وقال ابن عابدين في حاشيته: (وإلا فالحرمة عند قصد اللهو ليست محل الخلاف بل متفق عليها) ([66])
أقوال العلماء في التداوي بالمخدرات:
ولكن ماذا عن حكم التداوي بها إن أشار بذلك بعض ذوي المهارة والثقة من الأطباء بقصد علاج بعض الحالات وتسكين بعض الآلام المبرحة وتلك المزمنة كما هو الحال في بعض الأمراض السرطانية؟
للعلماء في ذلك قولان. القول الأول: بعض من يرى أنها مسكرة ويعطيها حكم الخمر يمنع التداوي بها. ومن هؤلاء: ابن تيمية([67]) وابن القيم([68]) وهو مقتضى كلام ابن حجر العسقلاني، وهذا القول قد سلم أصحابه من التناقض خالفناهم فيه أو وافقناهم. القول الثاني: ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز التداوي بالمخدرات إذا تعينت دواء بمعرفة الطبيب الثقة الحاذق، ومن هؤلاء: النووي([69]) وابن عابدين ([70]) والدسوقي ([71]) والحطاب ([72]) والزركشي([73]) وابن مفلح – إن سحقت مع دواء دون ما يجعل في الماءس.([74])
وبعض هؤلاء العلماء إنما قال بذلك لأن التداوي بالخمر يجوز عنده أصلًا. قال فخر الدين الزيلعي: «وقال في النِّهايَةِ يجُوزُ التّدَاوِي بِالمُحَرَّمِ كَالخَمْرِ وَالبَوْلِ إذا أخبره طبِيبٌ مُسلِمٌ أنَّ فيه شِفاءً ولم يجِدْ غَيرَهُ من المُبَاحِ ما يقُومُ مقَامَهُ وَالحُرْمَةُ تَرتَفِعُ لِلضّرُورَةِ فلم يكُنْ مُتدَاوِيًا بِالحَرَامِ فلم يَتَنَاوَلهُ حدِيثُ ابنِ مَسعُودٍ , وَيَحتَمِلُ أنَّهُ قاله في داءٍ عرِفَ له دوَاءٌ غيْرُ الْمُحرَّمِ»([75]). وبعضهم لم يعتبرها مسكرة كما مر معنا في المطلب السابق.
وبعضهم جوزها لأن القليل من المسكر حلال عنده ما لم يصل إلى حد الإسكار. قال ابن عابدين – رحمه الله -: (. . . أقول ومثله [الضمير يعود على بعض المحرمات التي ذكرها المؤلف مثل الحشيش والبنج والأفيون وجوزة الطيب.] زهر القطن فإنه قوي التفريج يبلغ الإسكار كما في التذكرة فهذا كله ونظائره يحرم استعمال القدر المسكر منه دون القليل كما قدمناه فافهم ومثله بل أولى البرش وهو شيء مركب من البنج والأفيون وغيرهما. . .).([76])
وبعضهم عدها من المسكرات وجوزها لضرورة التداوي، وقد عيب عليهم لأنه خلاف مذهبهم في حرمة التداوي بالخمر. قال الزركشي في زهر العريش: (ومنها: جواز التداوي بها، إن ثبت أنها تنفع من بعض الأدواء … وينبغي الجزم بالجواز. قال الزعفراني: والمحمودة وغيرها مما يقتل كثيرة، قد أجمع الناس على تناول القليل منه للحاجة. ثم رأيت الروياني في (البحر) صرح بذلك فقال: ويجوز التداوي به وإن أفضى إلى السكر إذا لم يكن منه بد. قال: وما يسكر مع غيره ولم يسكر بنفسه إن لم تنتفع به في دواء أو غيره فيحرم أكله، وإن كان ينتفع به حل التداوي به..) ([77])
قيل إن الطب الحديث أثبت أن المخدرات تسبب أمراضًا خطيرة، وأنه يصدق في التداوي بها قول كليب وائل: والمستجير بعمرو عند كربته … كالمستجير من الرمضاء بالنار، والعبرة هنا في تحديد الرمضاء والنار بقول الخبراء، وهم هنا الأطباء، وهم من يستعمل هذه الأدوية في علاج بعض الأدواء. وقيل إنه لا ضرورة في التداوي، وقيل إن القياس على أكل الميتة للمضطر قياس مع الفارق لأن الطبع ينفر من الميتة فإذا دعت الضرورة إليها فلن يأكل إلا بالقدر الذي تندفع به ضرورته، وليست المخدرات كذلك، وقيل إن القياس على شرب الخمر لمن به غصة قياس مع الفارق لأن هذا نفع متيقن وذاك متوهم، وقد سبق الجواب بأن النفع من الدواء ليس متوهمًا في زماننا هذا في أكثر الأحوال، وأن هناك ضرورة حقيقية في التداوي، وأنه ينفع من بعض الأمراض كما تحرق النار الخشب ويقطع السكين اللحم. والصواب هو التفريق بين السكر الذي يحصل عند تعاطي الخمر والحالة التي تحصل عند تعاطي المخدرات والتي لا يكون فيها ما في الأولى من إثارة وعربدة، ومن ثم فتلك المخدرات محرمة لتغييب العقل والإفتار والضرر، ولكنها ليست خمرًا، ومن ثم يجوز التداوي بصرفها، وإن كان المنصوح به خلطها مع غيرها من المسكنات خروجًا من الخلاف الأشد إذ التداوي بمعجون الخمر عند من يتمسك بكونها خمرًا أهون من التداوي بصرفها وبحله يقول جمع غفير من أهل العلم.
فهرس المراجع
أ- المراجع العربية:
- أسنى المطالب في شرح روض الطالب [كتاب]/ المؤلف زكريا الأنصاري.- القاهرة: دار الكتاب الإسلامي. – شرح فيه (روض الطالب) أحد المتون الشافعية المعتمدة للعلامة شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله اليمني المقرئ المتوفى سنة (837هـ).
- التحرير والتنوير [شبكة]/ المؤلف محمد الطاهر بن عاشور// الموسوعة الشاملة.
www.islamport.com
- الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني [كتاب]/ المؤلف علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي/ تحقيق: الشيخ علي محمد معوض – الشيخ عادل أحمد عبد الموجود. – بيروت: دار الكتب العلمية، 1419 هـ. – شرح فيه مختصر المزني، فجاء موسوعة عبقرية في الفقه الشافعي.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية [كتاب]/ المؤلف أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. – القاهرة: مكتبة ابن تيمية. – الأولى.
- الشرح الكبير [كتاب]/ المؤلف أحمد الدردير أبو البركات/ تحقيق: محمد عليش. – بيروت: دار الفكر. – شرح فيه (مختصر خليل) أحد المتون المالكية المعتمدة للعلامة أبي محمد ضياء الدين خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المتوفى سنة (776هـ).
- الطب والتداوي، هل يجوز عمل صمام للقلب من جلد الخنزير [شبكة]/ المؤلف موقع الإسلام سؤال وجواب// الإسلام سؤال وجواب. – 2 2, 2008.
ln=ara/http://www.islamqa.com/index.php?ref=93212
- الفروع وتصحيح الفروع [كتاب]/ المؤلف محمد بن مفلح المقدسي/ المحقق حازم القاضي. – بيروت: دار الكتب العلمية، 1418 هـ. – الأولى. – من كتب الخلاف داخل المذهب الحنبلي والتصحيح للمرداوي استدرك فيه على ابن مفلح مسائل عدها المذهب وليست كذلك.
- الفروق (أنوار البروق في أنواع الفروق مع الهوامش) [كتاب]/ المؤلف أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي أبو العباس/تحقيق: خليل المنصور. – بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ – 1998م. – الأولى.
- المجموع شرح المهذب [كتاب]/ المؤلف يحيى بن شرف النووي. – بيروت: دار الفكر، 1997م. – من أجمع كتب الفقه الشافعي بل الإسلام، شرح فيه النووي (المهذب) لأبي إسحاق الشيرازي (ت 476هـ) ولم يتمه، وإنما شرح ربع الأصل في 9 مجلدات، ثم مات، وجاء تقي الدين السبكي (ت 756هـ) فزاد ثلاثًا، ثم مات، ولم يتمه إلا الحضرمي والعراقي ثم محمد نجيب المطيعي.
- المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني [كتاب]/ المؤلف عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي. – بيروت: دار الفكر، 1405 هـ. – الأولى. – ليس يقتصر على المذهب الحنبلي، بل يعرض الخلاف داخل وخارج المذهب، مع الاستدلال والترجيح، فكان عمدة كتب الفقه المقارن، ولم يدانه في بابه كتاب.
- الموسوعة الفقهية [كتاب]/ المؤلف وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت. – الكويت: وزارة الأوقاف الكويتية.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق [كتاب]/ المؤلف عثمان بن علي الزيلعي. – القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، 1313هـ. – شرح فيه (كنز الدقائق) أحد المتون الحنفية المعتمدة للعلامة أبي البركات حافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة (710هـ).
- تحفة المحتاج في شرح المنهاج [كتاب]/ المؤلف أحمد بن حجر الهيتمي. – بيروت: دار إحياء التراث العربي. – شرح فيه (منهاج الطالبين وعمدة المفتين) أحد المتون الشافعية للنووي (ت 676هـ) اختصار (المحرر) للرافعي (ت 623هـ) والذي استمده من (الوجيز) للغزالي (ت 505) اختصار (الوسيط) له، اختصار (البسيط) له أيضًا، اختصار (نهاية المطلب في دراية المذهب) للجويني (ت 478هـ).
- حاشية ابن عابدين (حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار) [كتاب]/ المؤلف محمد بن أمين بن عمر (ابن عابدين). – بيروت: دار الفكر، 1421هـ. – حاشية على الدر المختار، وهو شرح العلامة الحصكفي المتوفى (1088هـ) على كتاب تنوير الأبصار للعلامة ابن تمرتاش الغزي الحنفي المتوفى (1004هـ).
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير [كتاب]/ المؤلف محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي/ المحقق محمد عليش. – بيروت: دار الفكر. – شرح فيه محمد بن عرفة الدسوقي المصري (ت1230هـ) الشرح الكبير للدردير (ت1201ﻫ)، والذي شرح فيه (مختصر خليل) أحد المتون المالكية المعتمدة للعلامة أبي محمد ضياء الدين خليل بن إسحاق (ت776هـ).
- حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني [كتاب]/ المؤلف علي الصعيدي العدوي المالكي/ تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي. – بيروت: دار الفكر، 1412 هـ. – حاشية للشيخ علي بن أحمد العدوي (ت1189هـ) على كتاب (كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني) والذي شرح فيه علي بن محمد المنوفي المصري (ت939هـ) متن (الرسالة) أحد المتون المالكية المعتمدة لابن أبي زيد القيرواني (ت386هـ).
- روضة الطالبين وعمدة المفتين [كتاب]/ المؤلف يحيى بن شرف النووي، محيي الدين أبو زكريا. – بيروت: المكتب الإسلامي، 1405 هـ.
- زاد المعاد في هدي خير العباد [كتاب]/ المؤلف محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ابن القيم/ تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط. – بيروت – الكويت: مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية، 1407 هـ – 1986 م. – الرابعة عشر.
- عون المعبود شرح سنن أبي داود [كتاب]/ المؤلف محمد شمس الحق العظيم آبادي. – بيروت: دار الكتب العلمية، 1995م. – الثانية.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري [كتاب]/ المؤلف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني/ المحقق محب الدين الخطيب. – بيروت: دار المعرفة.
- كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي.
- لسان العرب [كتاب]/ المؤلف محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري. – بيروت: دار صادر. – الأولى.
- مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى [كتاب]/ المؤلف مصطفى السيوطي الرحيباني. – دمشق: المكتب الإسلامي، 1961م. – شرح (غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى) للكرمي (ت 1033هـ) جمع (الإقناع) للحجاوي (ت960هـ) و(منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات) لابن النجار (ت972هـ) والذي جمع بين (التنقيح المشبع) للمرداوي (ت885هـ) و(المقنع) لابن قدامة (ت620هـ).
- معجم مقاييس اللغة [كتاب]/ المؤلف أحمد بن فارس. – بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1422 هـ.
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج [كتاب]/ المؤلف محمد الخطيب الشربيني. – بيروت: دار الفكر. – شرح فيه (منهاج الطالبين وعمدة المفتين) أحد المتون الشافعية للنووي (ت 676هـ) اختصار (المحرر) للرافعي (ت 623هـ) والذي استمده من (الوجيز) للغزالي (ت 505) اختصار (الوسيط) له، اختصار (البسيط) له أيضًا، اختصار (نهاية المطلب في دراية المذهب) للجويني (ت 478هـ).
- مواهب الجليل لشرح مختصر خليل [كتاب]/ المؤلف محمد بن عبد الرحمن المغربي (الحطاب)، أبو عبد الله. – بيروت: دار الفكر، 1398 هـ. – شرح فيه (مختصر خليل) أحد المتون المالكية المعتمدة للعلامة أبي محمد ضياء الدين خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المتوفى سنة (776هـ).
ب- المراجع الأجنبية:
UpToDate, edited by Andrew J Saxon, MD, published by UpToDate in Waltham, MA.
([1]) انظر: تبيين الحقائق ج 6 ص 33 والمجموع ج 9 ص 45 والمحلى ج 7 ص 426.
([2]) انظر: اختلاف الأئمة العلماء ج 2 ص 296 والمبسوط للسرخسي ج 24 ص 25 والمجموع ج 9 ص 46 وإعانة الطالبين ج 4 ص 156 والمحلى ج 7 ص 426.
([3]) تبيين الحقائق ج 6 ص 33 وانظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج 4 ص 224 ودرر الحكام شرح غرر الأحكام ج 4 ص 7.
([4]) حاشية العدوي ج 2 ص 642 وشرح مختصر خليل ج 8 ص 109.
([5]) مغني المحتاج ” ج 5 ص518.
([6]) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 4 ص 159.
([8]) شرح منتهى الإرادات ج 1 ص313.
([9]) زاد المعاد لابن القيم ج3 ص240.
([11]) «مَجْمُوع الفَتَاوَى» لابن تَيمِيَّة ج 37 ص471.
([12]) «مَجْمُوع الفَتَاوَى» لابن تَيمِيَّة ج 24 ص266.
([15]) «التحرير والتنوير» لابن عاشور ج 2 ص104.
([17]) الطب والتداوي، هل يجوز عمل صمام للقلب من جلد الخنزير [شبكة]/المؤلف موقع الإسلام سؤال وجواب//الإسلام سؤال وجواب: (2 2, 2008).
([20]) الحاوي الكبير ج 13 ص 409
([21]) يقول الخطيب الشربيني رحمه الله : ” محل الخلاف في التداوي بها – يعني بالخمر – بصرفها، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس، كلحم حية، وبول , ولو كان التداوي بذلك لتعجيل شفاء، بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به ” انتهى. ” مغني المحتاج ” ج 5 ص518. وانظر: أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 4 ص 159.
([23]) معجم مقاييس اللغه ج2 ص215
([25]) الموسوعة الفقهية الكويتية ج 5 ص 12؛ حاشية ابن عابدين ج 5 ص288 ؛ الشرح الكبير ج 4 ص353؛ تحفة المحتاج ج 7 ص 636؛ المغني ج 9 ص159.
([27]) مجموع الفتاوى ج 11 ص 594
([28]) الموسوعة الفقهية الكويتية ج 25 ص 92
([31]) حاشية ابن عابدين ج6 ص458.
([35]) المجموع ج9 ص30 وروضة الطالبين ج10 ص171.
([36]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام من ج34 ص205.
([38]) قال في زهر العريش في تحريم الحشيش: (وأما الفقهاء: فقد صرحوا بأنها مسكرة منهم: أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، في كتاب (التذكرة في الخلاف)، والشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في (شرح المهذب)، ولا يعرف فيه خلاف عندنا). زهر العريش ص102ـ 103.
([39]) تهذيب الفروق بهامش الفروق ج1 ص214.
([42]) حاشية ابن عابدين ج6 ص458.
([43]) الفروق للقرافي ج1 ص217، 218.
([44]) حاشية الدسوقي علي خليل ج1 ص46.
([47]) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 4 ص 159
([54]) مجموع الفتاوى ج 23 ص 47.
([57]) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 4 ص 159 وقال: “لأنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره”، وفي العبارة الأخيرة نظر.
([59]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج34 ص211.
(1) UpToDate, edited by Andrew J Saxon, MD, published by UpToDate in Waltham, MA.
([62]) قائل هذا البيت حسان بن ثابت. ديوان حسان ص60، دار الأندلس لبنان.
([63]) الفروق للقرافي ج1 ص217، 218.
([64]) مجموع الفتاوى ج 23 ص 47.
([65]) تهذيب الفروق بهامش الفروق ج1 ص214.
([66]) حاشية ابن عابدين ج6 ص455.
([68]) زاد المعاد لابن القيم ج3 ص240.
([69]) روضة الطالبين ج10 ص171. وانظر: المجموع ج9 ص30.
([70]) حاشية ابن عابدين ج6 ص455.
([75]) تبيين الحقائق ج 6 ص 33 وانظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج 4 ص 224 ودرر الحكام شرح غرر الأحكام ج 4 ص 7.