الصُّفْرَة والكُدْرَة: سائلان يسيلان من فرج المرأة، وقد يكون ذلك في زمن الحيض أو في غير زمانه، وما كان في زمن الحيض فقد يكون في أوله أو آخره.
ولقد اختلف أهل العلم في حكمهما على أربعة أقوال:
- الأول: أنهما حيض مطلقًا، وهو قول المالكية([1])، والأصح عند الشافعية([2])، والحنفية في الصُّفْرَة دون الكُدْرَة([3]).
- الثاني: ليستا حيضًا مطلقًا. وهو قول الظاهرية([4]).
- الثالث والرابع: هما حيض في زمان الحيض وليستا كذلك في غير زمانه، ثم اختلف أصحاب هذا القول فمنهم من قال إنه لابد أن يسبق بالدم: كأبي يوسف (في الكدرة)([5]) ، وأبي ثور([6]) ([7]). ومنهم من لم يشترط ذلك: كأبي حنيفة، ومحمد (في الكدرة)([8]) ، والراجح عند الحنابلة([9]).
قول السادة الحنفية:
قال السَّرَخْسِيّ :: «فَصْلٌ: ألوان ما تراه المرأة في أيام الحيض ستة: السواد، والحمرة، والصفرة، الكُدْرَة، والخضرة، والتُّرْبِيَّة؛ أما السواد فغير مشكل أنه حيض لقوله ﷺ: «دم الحيض أسود عبيط» محتدم والحمرة كذلك، فهو اللون الأصلي للدم إلا أن عند غلبة السوداء يضرب إلى السواد وعند غلبة الصفراء يرق فيضرب على الصُّفْرَة … وأما الكُدْرَة فلون كلون الماء الكدر، وهو حيض في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى سواء رأت في أول أيامها أو في أخر أيامها، وقال أبو يوسف :: إن رأت الكُدْرَة في أول أيامها لم يكن حيضًا، وإن رأت في آخر أيامها يكون حيضًا»([10]).
قول السادة المالكية:
قال سَحْنُون([11]) :: «وقال مالك في المرأة ترى الصُّفْرَة أو الكُدْرَة في أيام حيضتها أو في غير أيام حيضتها فذلك حيض وإن لم تر ذلك دمًا»([12]). وفي «التَّاج والإكْلِيل»: «ومن «المُدَوَّنَة»:… وإن لم تر معه دمًا. الباجِيّ: أو لم يتقدمه دم»([13]).
قول السادة الشافعية:
قال الشِرْبِينِيّ :: «والصُّفْرَة والكُدْرَة كل منهما حيض في الأصح، وفي «الروضة» الصحيح؛ لأنه الأصل فيما تراه المرأة في زمن الإمكان. والثاني: لا، لأنه ليس على لون الدم، لقول أم عطية: كنا لا نعد الصُّفْرَة والكُدْرَة شيئًا. وأجاب الأول بأن هذا معارض بقول عائشة رضي الله عنها لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيضَاء … ومحل الخلاف إذا رأت ذلك في غير أيام العادة، فإن رأته في العادة، قال في «الروضة»: فحيض جزمًا، لكن في التتمة لابد من قوي معه، وقيل: يجب تقدم القوي»([14]).
قول السادة الحنابلة:
قال ابن قُدامة :: «وحكم الصُّفْرَة والكُدْرَة حكم الدم العَبِيط في أنها في أيام الحيض حيض … وإن طَهُرَت ثم رأت كُدْرَة أو صُفْرَة، لم يلتفت إليها»([15]).
وقال ابن مُفْلِح :: «والصُّفْرَة زمن العادة حيض، عنه وبعدها وإن تكرر اختاره جماعة، وشرط جماعة اتصالها بالعادة، وذكر شيخنا [ابن تَيمِيَّة] وجهين؛ أحدهما ليست حيضًا مطلقًا، وعكسه»([16]).
قول السادة الظاهرية:
قال ابن حَزْم :: «فصح بما ذكرنا أن الحيض إنما هو الدم الأسود وحده، وإن الحمرة والصُّفْرَة والكُدْرَة عرق وليس حيضًا»([17]).
1- بحديث عائشة ل: أن النساء كن يبعثن إليها بالدِّرَجَة فيها الكُرْسُف فيه الصُّفْرَة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة، فتقول لهن: «لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيضَاء»([18]).
فعائشة لكانت ترى الطهر هو خروج القطن أبيض لا أثر عليه من صُفْرَة أو غيرها.
وعورض هذا بما روي عن عائشة ل نفسها: قال رسول الله ﷺ في المرأة ترى ما يَرِيبُها بعد الطهر: «إنما هي عِرْقٌ أو عُرُوقٌ»([19]). وروايتها عن رسول الله ﷺ أقوى من قولها، لكن الحديث يصلح لمعارضة من قال بأن الصُّفْرَة والكُدْرَة حيض مطلقًا دون من قال إنهما حيض في زمان الحيض دون غيره، لأنه فيما تراه بعد الطهر.
2- واستدلوا بالقياس، فقالوا: لما كان السَّواد حيضًا وكانت الحمرة جزءًا من أجزاء السواد وجب أن تكون حيضًا، ولما كانت الصُّفْرَة جزءًا من أجزاء الحمرة وجب أن تكون حيضًا، ولما كانت الكُدْرَة جزءًا من أجزاء الصُّفْرَة وجب أن تكون حيضًا، ولما كان كل ذلك في بعض الأحوال حيضًا وجب أن يكون في كل الأحوال حيضًا([20]).
وقد أجاب عليهم ابن حَزْم : بقلب القياس فقال: «لما كانت القَصَّة البيضاء طهرًا وليس حيضًا بإجماع، ثم كانت الكُدْرَة بياضًا غير ناصع وجب أن لا تكون حيضًا، ثم لما كانت الصُّفْرَة كُدْرَة مشبعة وجب أن لا تكون حيضًا، ثم لما كانت الحمرة صُفْرَة مشبعة وجب أن لا تكون حيضًا …»([21]).
3- واستدلوا بقول أسماء ل مما رواه الدَّارِمِيّ وغيره عن محمد بن إسحاق عن فاطمة قالت: «كنا نكون في حجرها [أي أسماء] فكانت إحدانا تحيض ثم تطهر فتغتسل وتصلي ثم تنْكُسُها الصُّفْرَة اليسيرة، فتأمرنا أن نعتزل الصلاة حتى لا نرى إلا البياض خالصًا»([22]).
وأجيب عليه بأنه فهم لأسماء ل خولفت فيه من قِبَل عائشة وأم عطية.
- أما أصحاب القول الثاني وهو أنهما ليستا حيضًا مطلقًا فاستدلوا بالأدلة الآتية:
1- قوله ﷺ: «إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلاةِ وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي»([23]).
ووجه الدلالة: أن دم الحيض أسود فكل دم غيره ليس بحيض ومن باب أولى كل سائل ليس دمًا. وأجيب بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
2- قول أم عطية ل -وقد صحِبَت الرسول ﷺ-: «كنا لا نعُدُّ الكُدْرَة والصُّفْرَة شيئًا»([24])، وجاءت رواية عند أبي داود بزيادة: «… بعد الطُّهر شيئًا»([25])، وعند الدَّارِمِيّ: «… بعد الغسل»([26]).
وبهذه الزيادات يصلح الحديث للرد على من عد الصُّفْرَة والكُدْرَة حيضًا مطلقًا، لكن يقف دون إثبات أنهما ليستا حيضًا مطلقًا، فقد يتمسك أصحاب القولين الثالث والرابع بإمكان جمعه مع حديث عائشة بأن يقال بأنهما حيض في زمان الحيض دون غيره.
- أما أصحاب القولين الثالث والرابع وهم القائلون بأن الصُّفْرَة والكُدْرَة حيض في زمان الحيض وطهر في زمان الطهر فإنهم قد استدلوا بالأدلة الآتية:
1- أمر عائشة ل النساء ألا يعجَلْن حتى يرَيْن القَصَّة البيضاء.
ووجه الدلالة: أن كل ما يكون من صُفْرَة أو كُدْرَة متصلة بالحيض تعد حيضًا.
2- تقييد أم عطية لعدم الاعتداد بالصُّفْرَة والكُدْرَة بأن ذلك بعد الطهر أو بعد الغسل، فيدل بمفهوم المخالفة أنهما يعتد بهما حيضًا قبل ذلك.
3- الإعمال أولى من الإهمال، وبهذا القول نعمل حديثي عائشة وأم عطية كليهما.
4- الآثار التي تعضد هذا القول عن أهل العلم كعلي([27]) والحسن([28])([29]) ومحمد بن الحنفية([30])([31]). وكلها ذكر فيها أن المرأة إذا رأت الصُّفْرَة والكُدْرَة بعد الطهر أو الغسل فإنها تغسلها وتتوضأ وتصلي.
ثم إن أهل هذا القول اختلفوا في الصُّفْرَة والكُدْرَة تراهما قبل الحيض أو تراهما المُبْتَدَأة هل يعدان حيضًا؟
- فذهب أبو يوسف وأبو ثَور إلى أنهما لا يعدان حيضًا ما لم يسبقهما دم.
- وقال أبو حنيفة ومحمد وجمهور الحنابلة بأنهما يعدان حيضًا سواءٌُُ سبقا بدم أم لا ما داما في زمان الحيض.
ولقد لخص الخلاف بينهم السَّرَخْسِيّ في «المَبسُوط» حيث قال :: «قال أبو يوسف : تعالى إن رأت الكُدْرَة في أول أيامها لم يكن حيضًا، وإن رأت في آخر أيامها يكون حيضًا، قال: لأن الكُدْرَة من كل شيء تتبع صافيه فإذا تقدمه دم أمكن جعل الكُدْرَة حيضًا تبعًا فأما إذا لم يتقدمها دم لو جعلناه حيضًا كان مقصودًا لا تبعًا، وأبو حنيفة ومحمد يقولان: ما يكون حيضًا إذا رأته المرأة في آخر أيامها يكون حيضًا إذا رأته في أول أيامها كالسواد والحمرة؛ لأن جميع مدة الحيض في حكم وقت واحد، وما قاله أبو يوسف : تعالى فيما إذا كان النقب من أعلى الظرف، فأما إذا كان النقب من أسفله فالكُدْرَة يسبق خروجها الصافي»([32]).
ومع تخيل ما يحصل من سقوط جدار الرحم في أيام الحيض، فقول أبي يوسف أقوى لأن الكُدْرَة بعد الحيض قد تكون من آثاره، أما قبله فهي من إفرازات الرحم. والحق أن أدلة الفريقين الثالث والرابع هي الأقوى وفيها جمع حسن بين الآثار.
إن إفرازات كثيرة تخرج من الرحم والمَهْبِل،([33]) تزيد وتنقص تبعًا لعوامل كالاضطرابات الهرمونية والنفسية، ووجود أجسام غريبة داخل الرحم. إن هذه الإفرازات لا ينبغي أن تعطى حكم الحيض لاختلافها عنه اختلافًا جوهريًا، فالحيض تساقط لبطانة جدار الرحم، أما هذه الإفرازات المخاطية فليست كذلك.
أما الصُّفْرَة والكُدْرَة المتصلة بالحيض وبعيده، فإن كانتا تشبهان ما يصيب المرأة في غير وقت الحيض من الإفرازات فحكمهما حكم تلك الإفرازات وهو الطهر، أما إن كانتا تختلفان عنها وتتبعان الحيض عادةً، فهما من بقايا الحيض. وعندها تتربص المرأة ذَهابهما بخروج القَصَّة (أو القُصَّة) البيضاء، والتي تعني خروج سائل أبيض، أو خروج القطنة بيضاء ليس عليها أثر الدم، ولعله الأصح.
وقد يكون وجيهًا أيضًا أن تذهب المرأة للطبيب إذا اشتكت من الصُّفْرَة والكُدْرَة بعد الحيض، فإن كان فيهما آثار الدم فهما من بقايا الحيض ولهما حكمه وإلا فلا.
([1]) «المُدَوَّنَة» أجوبة مالك برواية سَحْنُون (1/153).
([2]) «مُغْنِي المُحْتاج» للشِّرْبِينِيِّ (1/285-286).
([3]) «المَبسُوط» للسَّرَخْسِيِّ (3/151-152).
([4]) «المُحَلَّـى» لابن حَزْم (1/384).
([5]) «المَبسُوط» للسَّرَخْسِيِّ (3/151-152).
([6]) هو: أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكَلْبِيّ البَغْدَادِيّ، أحد أئمة الدنيا فقهًا وفضلا، كان من أصحاب الرأي حتى صاحب الشافعي، وكان يستقل برأيه، فلم يعد الشافعية خلافه وجهًا. مات : ببغداد سنة 240هـ. من مصنفاته: كتاب ذكر فيه اختلاف مالك والشافعي ومذهبه في ذلك. راجع: «طَبَقَات الفُقَهَاء» (1/112)، «طَبَقَات الشَّافِعِيَّة» لابن قاضي شُهْبَة (2/55).
([7]) «المُغْنِي» لابن قُدامة (2/203).
([8]) «المَبسُوط» للسَّرَخْسِيِّ (3/151-152).
([9]) «المُغْنِي» لابن قُدامة (1/203)، «الفُرُوع» لابن مُفْلِح (1/273).
([10]) «المَبسُوط» للسَّرَخْسِيِّ (3/151-152).
([11]) هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون: قاض فقيه انتهت إليه رئاسة العلم في المغرب أصله شامي من حمص، ومولده في القيروان سنة 160هـ، روى «المدونة» في فروع المالكية، عن عبد الرحمن بن قاسم، عن الإمام مالك. توفي سنة 240هـ. راجع ترجمته في: «وفيات الأعيان» (3/180)، و«السير» للذهبي (12/63)، و«شذرات الذهب» (1/94).
([12]) «المُدَوَّنَة» مالك-رواية سَحْنُون (1/153).
([13]) «التَّاج والإكْلِيل» للمَوَّاق (1/367).
([14]) «مُغْنِي المُحْتاج» للشِّرْبِينِيِّ (1/285-286).
([15]) «المُغْنِي» لابن قُدامة (1/203).
([16]) «الفُرُوع» لابن مُفْلِح (1/273).
([17]) «المُحَلَّـى» لابن حَزْم (1/384).
([18]) «مُوَطَّأ مالك» كتاب: الطهارة، باب طهر الحائض، حديث رقم (116)، وصححه الألبَانِيّ في «الإرواء» (1/218) رقم (198).
([19]) «سُنَن ابن مَاجَه» كتاب: الطهارة وسننها، باب ما جاء في الحائض ترى بعد الطهر الصفرة والكدرة، حديث (638)، وصححه الألبَانِيّ، انظر: «سُنَن ابن مَاجَه» بتحقيق مشهور (1/646).
([20]) «المُحَلَّـى» لابن حَزْم (1/391).
([21]) «المُحَلَّـى» لابن حَزْم (1/392).
([22]) «سُنَن الدَّارِمِيّ» كتاب الطهارة، باب الطهر كيف هو؛ وانظر «المُغْنِي» لابن قُدامة (1/203).
([23]) «سُنَن النَّسَائيّ» كتاب الحيض والاستحاضة، الطهارة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، رقم (360)؛ وصححه النَّوَوِيّ في «المَجْمُوع» (2/397).
([24]) «صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض، حديث رقم (315).
([25]) «سُنَن أبي دَاوُد» كتاب الطهارة، باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر (1/83)، سكت عنه. وصححه الألبَانِيّ بالزيادة، انظر «سُنَن أبي دَاوُد» بتحقيق مشهور، رقم (306).
([26]) «سُنَن الدَّارِمِيّ» كتاب الطهارة، باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض رقم (853، 854).
([27]) «سُنَن الدَّارِمِيّ» كتاب الطهارة، باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض رقم (857، 861).
([28]) هو: أبو سعيد الحسن بن أبى الحسن يسار البَصْرِيّ، الأنصَارِيّ، مولاهم، مولى زيد بن ثابت، ويقال مولى جابر بن عبد الله، من أئمة وأعيان التابعين، ثقة فقيه فاضل مشهور، كان كبير الشأن، رفيع الذكر، رأسًا فى العلم والعمل، توفي : سنة 110هـ راجع ترجمته في: «طَبَقَات الفُقَهَاء» (1/91)، «وَفَيَات الأعْيَان» (2/69)، «السِّيَر» للذَّهَبِيّ (4/563).
([29]) «سُنَن الدَّارِمِيّ» كتاب الطهارة، باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض رقم (854).
([30]) هو: أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القُرشِيّ، المعروف بابن الحَنَفِيَّة نسبة لأمه خولة بنت جعفر، أعطاها الصديق لأبيه ت من سبي بني حنيفة. ولد في المدينة سنة 21هـ، وكان أسود اللون من الأبطال الأشداء، واسع العلم، ورعًا تقيًا، توفي : بالمدينة سنة 81هـ. «شَذَرَات الذَّهَب» (1/88)، «وَفَيَات الأعْيَان» (4/169)، «السِّيَر» للذَّهَبِيّ (4/110).
([31]) «سُنَن الدَّارِمِيّ» كتاب الطهارة، باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض رقم (855).
([32]) «المَبسُوط» للسَّرَخْسِيِّ (3/152).
([33]) راجع: «الإفرازات الطبيعية عند المرأة بين الطهارة والنجاسة» د. فاطمة عمر نصيف (ص6).