كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
إن أول تحدٍ للحرية يواجه الدعاة هو تحديد موقفهم منها، فإن اضطراب الخطاب بشأنها قد يحدث نفورًا منهم عند قطاعات واسعة من الناس. إن الدعاة الذين يرشح من خطابهم التوجس من الحرية وآثارها قد ينطلقون أحيانًا من مقدمات صحيحة، ومنها أن الإنسان عبد لله تعالى، فهو من هذه الجهة ليس حرًا، بل عبد محاسب بما يفعل ويقول بل ويضمر – ما لم يكن هاجسًا يدافعه. قال تعالى: “لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ” [البقرة – 284]
ومقام العبودية لله هو أشرف المقامات، وينبغي أن يكون ذلك معلومًا لكل مسلم، كما ينبغي أن يعلم أن التحرر الحقيقي من سلطان المخلوقين لا يتم إلا بتمام العبودية للخالق، وهذا ما جاء به دين الإسلام، كما قال ربعي – رضي الله عنه -: “الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.” فإن من لا تكتمل عبوديته لله لا تتحرر نفسه من سلطان الرؤساء والسادة وشهوة المطعم والمنكح وشدة الرغبة في الجاه والمال…الخ. بل الحرية ثمرة لترديد اللسان والقلب لشهادة التوحيد، قال الحكيم الترمذي: “وجوهر التهليل الوله بآلهيته؛ وطعمه الامتلاء والغنى؛ وريحه البصر؛ وثمرته الحرية، والخروج من الرق، والاعتزاز بالله.”
ولكن الحرية التي تهفو إليها نفوس عموم المسلمين ليست التحرر من العبودية لله، ولكن من قهر البشر، وهذا عين ما جاء به الإسلام، والآيات والأحاديث الدالة على فضل العتق بل والآمرة به، كما في بعض الكفارات، خير دليل على ذلك، حتى عبر الفقهاء عن حرص الإسلام على تحرير العبيد بتشوف الشارع إلى الحرية، يقول ابن القيم: ” “وَأَمَّا الشَّارِعُ فإنه مُتَشَوِّفٌ إلَى تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ.” . وليست الحرية فقط هي ما كان ضد الرق، بل هي ما كان ضد الظلم والقهر كذلك، وإن كان يسيرًا، ولقد قال عمر – رضي الله عنه – لعمرو بن العاص لما ضرب ابنه قبطيًا من أهل مصر في خصومة على سباق كان بينهما: “مُذْ كَمْ تَعَبَّدتُم النَّاسَ وقَد وَلَدَتْهُم أمَّهَاتُهُم أحْرَارًا” إن روعة العدالة الإسلامية مهدت الطريق أمام نفوس المصريين لاعتناق الإسلام الذي أنقذهم من بطش وعسف الرومان، ومن قبلهم الفراعنة، الذين حكموا بسلطان الألوهية المزعومة.
إن الناس قد يحسنون التعامل مع الحرية وقد يسيئون، فما هي إلا ابتلاء كباقي الأحوال التي تعرض للناس في دنياهم، وقد يسقط الناس في اختبار السراء كما قد يسقطون في اختبار الضراء بل وأشد. ولكن التهويل من مخاطرها والكلام مثلا عن إمكان أن تؤدي إلى تشريع زواج المثليين في مصر، بينما لم يشرع هذا سوى في ولايتين من خمسين ولاية أمريكية، وما زال الجدل فيهما محتدمًا بهذا الصدد، أقول إن هذا قد يؤدي إلى سلبية في التعامل مع نعمة تستوجب الشكر، فقد كان صلح الحديبية فتحًا يستوجب الشكر كونه هيأ الأجواء الآمنة لقوافل الدعوة أن تسعى بحرية في أنحاء الجزيرة. إن هذا الدين عليه نور من الله، فلو ترك الفكر يواجه الفكر لانتصر هذا الدين لا محالة، فظهور الحجة والبرهان له في كل الأزمان. يقول جوته، شاعر وأديب الألمانية الأهم في تاريخ تلك اللغة: ” كلما قرأنا القرآن جذبنا، أعجبنا، بهرنا…” إن الإسلام هو مرجعية هذه الأمة، وإنها لم ولن تعرف مرجعية أخرى تلتقي حولها وتخضع لها فتوحد صفوفها وتضبط إيقاعها لتقودها إلى النهضة. إن لكل حضارة مرجعية مقدسة، وهذه قد تكون روحية أو فكرية أو مادية كتقديس اللذات البدنية (الهيدونية). ولكن هذه الشعوب الشرقية لم تفلح معها سوى المرجعيات الروحية، والإسلام كان وما زال اختيار الجماهير الكاسحة منها، فلا جرم أنه سيبقى سلطانه ممتدًا على القلوب. فإن ترك الخيار للشعوب، وأحسن الدعاة بيان المطلوب، فلن يكون ثمة خوف على الإسلام من الحرية، بل تكون التربة الصالحة التي تضرب فيها شجرة الدين بجذورها فتستقر لتتطاول فروعها الباسقة فتتشابك وتبسط ظلالها الوارفة على واقع الحياة حتى ينعم بربيع أيامها الناس، كل الناس.
إنه لا بأس أن نضمن في خطابنا عن الحرية معنى العبودية لله، بل ونؤكد أنه من تمام الحرية المنشودة، أما أن نصدر خطابنا بذم الحرية أو يكون ذلك الظاهر من حديثنا عنها، فهذا لعمري ظلم للشريعة وعدوان عليها.
التحدي الآخر للحرية يكمن في فقدان الدعاة ذلك التعاطف الفطري مع المضطهدين، والذي استحقوه بامتياز في الحقب الماضية، ولأن شعور الناس بالقهر يرجى أن يزول أو يخف، فلن يراهم هؤلاء كالمخَلِّصين لهم من طغيان النظم الجائرة والمذَكِّرين لهم بالعدالة العمرية، بل من صارت له منهم أية مساحة من التمكين سيطالب بتلك العمرية ذاتها التي كان يتحدث عنها.
والحل هو العمل على تهيئة أسباب أخرى تبقي على، بل تزيد من، تعلق الناس بالدعاة، وهذا يكون بإعداد كوادر من الدعاة المؤهلين الأكفاء ممن تجردوا لله وانخلعوا من كل حظوظ النفس وتحلوا حتى تضلعوا بالتواضع ورباطة الجأش وسلامة الصدر وسعة الحلم وطول الصبر وتسلحوا بالتأصيل الشرعي والمعرفة الثقافية العامة بل والمتخصصة كذلك لدى البعض، ثم هم يعرضون ما أحسنوا فهمه من الدين بلغة إيجابية مبينة وحجة منطقية قويمة، ويظهر في عرضهم رفقهم بالناس وشدة حرصهم عليهم، فتراهم لا يكتفون بالوعظ، بل يشاركون الناس فيما أهمهم ويعنون بعلاج السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بحلول عملية منبثقة من مشكاة الوحي ومدركة لمقاصده، وفي نفس الوقت، متعاطية ومتفاعلة مع دقائق الواقع ومحيطة بتطور المدركات والمنجزات الإنسانية في شتى المجالات المعرفية ومستفيدة منها.
إنه قد أتى على الدعاة زمان حرصوا فيه على تكثير السواد خوفًا من استبداد الطغاة بهم وحرصًا على بقاء الدعوة وانتشارها، ولا شك أن العناية بالكم والكيف معًا هي بغية كل داعية مخلص، ولكن ضرورات الواقع قد تفرض تغليب جانب على الآخر، ومع تغير الواقع ينبغي أن يعاد النظر في الأولويات، والذي أراه أن الوقت قد حان لنبدأ تدريجيًا في ترجيح الجانب الكيفي على الكمي من تلك المعادلة. وإن كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” ليْسَ شَيءٌ خَيْرًا مِنْ أَلْفٍ مِثْلِه إلا الإنْسَان” فإن ذلك المعنى ينطبق على الدعاة من باب الأولى.
ومن تحديات الحرية أنه لن يكون الطغاة الحاجز بيننا وبين كل مراداتنا، كتحقيق النهضة مثلاً، والتي سيظهر الكفاح من أجل تحقيقها السلبيات الضخمة في مجتمعاتنا والتي جرتنا بداية إلى ما نحن فيه. سيبقى التحدي ماثلا ولكنه لن يختزل في ذهاب الطغاة، بل سيكون في تغيير مفاهيم وسلوكيات مجتمع بأكمله. أما مرادنا من تحقيق العزة لأمتنا ورفع المظالم عنها وتحرير فلسطين، الخ، فإن الطغاة كذلك لن يكونوا الحاجز بيننا وبين ما نرجوه، ولكن تبقى حسابات القوة هي الحكم، فيغيب مثلا، وإن جزئيًا، الدور البارز للقضية الفلسطينية في تجييش المشاعر وصناعة الصحوة.
والحل هو الإسهام في صناعة النهضة والأخذ بزمام المبادرة وطرح تصورات إسلامية واعية للبعث الحضاري في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إن الإسلام معني بعمارة الأرض، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن قَامَتْ السَّاعَةُ وبِيَد أحَدِكُم فَسِيلةٌ فَاسْتَطاعَ ألا تَقُومَ حَتَّى يَغرِسَهَا فَليَغرِسْهَا.” ولكن الإسلام لم يأت ليحاصر عمل العقل في الإبداع الحضاري بشتى صوره، ولذلك لم تأت أحكامه شديدة التفصيل في أبواب المعاملات حتى قيل إن الشارع تعالى اكتفى فيها بوضع علامات تمنع من الانحراف، ولكن الحقيقة أن مجموع هذه العلامات ليس مانعًا من الانحراف فحسب، بل هاد إلى سبل الرشاد كذلك ومكون لنظريات شمولية في مجالات النشاط العمراني المختلفة، مع ترك التفاصيل للإبداع الإنساني.
إن العمل المؤسسي سيكون بالغ الأهمية في المرحلة المقبلة، وإن المتدينين يستطيعون أن يؤدوا أعظم الأدوار في علاج مختلف السلبيات، وخدمة قضايا الأمة التنموية في كافة المجالات، وذلك من خلال مؤسسات تعنى بالعمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وهذا الأخير لا يرتبط فقط بالحكومة ووزاراتها، بل ربما كانت المشاركة الأهم في هذه المرحلة هي ما يكون على مستوى المحليات ومؤسسات المجتمع المدني الرقابية والتوعوية. إن هناك كثيرًا من المشاريع الاقتصادية الواعدة كالصناعات الصغيرة وتقنية المعلومات والزراعة التقليدية وغيرها، كالزراعة العضوية، وما يتبعها من تنمية للثروة الحيوانية والصناعات ذات الصلة. إن إنشاء بنك تسليف إسلامي للمضاربات الصغيرة ربما يكون له أبلغ الأثر على النهوض بالأسر الفقيرة، وهو عمل صالح من أكثر من جهة، كما هو الحال مع دعم مشروعات العمل من المنازل للنساء وأصحاب الاحتياجات الخاصة. أما العناية بالتعليم في كافة مراحله فينبغي أن تكون من أولى أولويات العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، وذلك لإعداد العمالة الماهرة التي ستنقل البلاد في المديين المتوسط والبعيد إلى ما نرجوه. إن مواجهة السلبيات المنتشرة في المجتمع ينبغي أن تكون همًا حاضرًا في كل الخطط المستقبلية، وهذا يكون من خلال الوعظ والتذكير، وحملات التوعية التي ربما احتاجت إلى تنسيق بين الدعاة على اختلاف خلفياتهم ومشاربهم، فإن مساحة الاتفاق تبقى عظيمة بين الأغلبية العظمى منهم. ولكن الوعظ والتذكير ينبغي أن يقترنا بإعطاء نماذج إيجابية للقضاء على تلك السلبيات.
المطلوب إذًا إعادة المزاوجة بين النظرية والتطبيق، في ضوء اجتهاد يحافظ على الثوابت ويستوعب المتغيرات، كذلك الذي كان في أيام الخلافة الراشدة، والذي مكن الأمة من استيعاب الثقافات الفارسية والرومية والنبطية والكردية والقبطية والبربرية وغيرها مما أدى إلى فعل حضاري وعمراني وثقافي لم يشهد العالم له مثيلا في تاريخه، وذلك من غير أن يصاب جوهر الدين بشيء من التحريف، ولما انحسر هذا الاجتهاد الواعي، وذلك تحديدًا في منتصف الدولة العباسية، بدأت الهوة بين النظرية والممارسة في الخطاب الديني تتسع حتى انقسم المجتمع إلى مترفين غير عابئين بالدين، وصوفيين فر كثير منهم من معترك الحياة إلى روحانيات ورهبنة – وبعضهم إلى الخرافة – ليجدوا فيها ما يملأ عليهم جوانب النفس التواقة إلى الحق، وعلماء منعزلين منكبين على خدمة النصوص والتراث، وعامة تاهوا لما ضل السراة، وقليل من العلماء الربانيين الذين لا يخلو منهم بفضل الله زمان، والذين بقوا يجاهدون في سبيل إحياء ما اندثر من معالم الحق في حياة الخلق.
إن صناعة النهضة أو الإعانة عليها من أفضل الأعمال، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال – صلى الله عليه وسلم:”الإيمَانُ بالله والجِهَادُ في سَبِيلِ الله”. قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال:”أنْفَسُهَا عِندَ أهْلِهَا وأكْثَرُهَا ثَمَنَاً”. قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ” تُعِينُ صَانِعَاً أو تَصْنَعُ لأخْرَق”[متفق عليه] إن الذي يسهم في تحسين الإنتاج الزراعي إنما يعين الآلاف أو الملايين من الفلاحين على عملهم، وكذلك كل عمل يسهم في نهضة زراعية أو صناعية أو تجارية…الخ.
إن الدعاة، بل وعموم المتدينين، قد ضيق عليهم أشد التضييق، ومنعوا من أن يسهموا في بناء حاضر أمتهم ومستقبلها، وما زلت أذكر أن الدعوة السلفية بالإسكندرية كانت قد سعت في تنظيم مشروع لكفالة الأيتام، فلاقى القائمون على ذلك أشد العنت مما كان يسمى بمباحث أمن الدولة، والتي رأت في هذا العمل سبيلا لكسب الدعوة زخمًا اجتماعيًا فعزموا على إجهاضه. الآن، ومع رجائنا أن تصير الأحوال إلى ما نحب جميعًا من إطلاق أيادي الخيرين في البناء، فلا يسوغ أن يفوت الدعاة الفرصة السانحة ليكونوا جزء فاعلاً ومتفاعلاً مع واقع أمتهم، وليكن لهم أسوة في أمثال الأئمة الأعلام كابن المبارك والعز بن عبد السلام وابن تيمية، وهذا الأخير شارك في تهييج الناس بما فيهم الأمراء لقتال التتار فجاء إلى مصر لحث السلطان محمد بن قلاوون، كما فعل مع أمير العرب عيسى بن مهنا، ولم يكتف بذلك بل شارك بنفسه في موقعة شقحب.
لقد جاء وقت العمل فليكن الكلام محركًا إليه لا بديلا عنه.
في المقال القادم نناقش – إن شاء الله – ما يفرضه تحدي الحرية من خريطة جديدة للعلاقة مع عموم الناس، والنخب، الموافق منهم والمخالف.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه