كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
في المقال السابق ذكرت جملة مما نحتاج إليه نحن الإسلاميين في تعاطينا مع النخب في هذه المرحلة الجديدة التي تعيشها بلدنا مصر وغيرها من بلاد المسلمين التي تشهد تحولات تاريخية. ولكن النخب التي جرى الحديث عنها هي تلك التي تتبنى مشاريع فكرية ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية مخالفة للإسلام. في هذا المقال نعرض إلى بعض المرتكزات في التعامل مع عموم الناس والنخب التي لا تتبنى أيديولوجيات بعينها، ولكنهم مبرزون في بعض العلوم أو الفنون أو أصحاب منجزات وعطاء متميز في مجالات عملهم أو تخصصهم.
في أزمنة القمع السابقة، كان كثير من هؤلاء منصرفين عن متابعة السجال الفكري بين التيارات المختلفة، بله المشاركة فيه. وكان عذرهم في ذلك عدم جدوى المشاركة، فإن الشعب لم يستدع من قبل للإسهام الفاعل في صناعة حاضر البلاد أو مستقبلها. ولذلك لم يكن نادرًا أن تجد أحد المبرزين في الطب أو حتى الأدب، وليس لديه اهتمام بالشأن العام، وثقافته السياسية في غاية الضحالة. أما الآن فإنه يتوقع مع عودة الحراك المجتمعي أن يتمايز الناس وينحازوا إلى هذا المشروع الفكري أو ذاك. ومن هنا تأتي أهمية سعي دعاة المرجعية الإسلامية في إقناع القسم الأكبر من هذه النخب بأطروحاتهم.
إن من أهم ما ينبغي أن يستحضره الدعاة في تعاطيهم مع هذه النخب أن قسمًا عظيمًا من هؤلاء محبون لله ورسوله. وهم كذلك مريدون للخير، ولكن قسمًا كبيرًا منهم لم يدركوه بعد لتقصير منهم في طلبه، وآخر من الدعاة أنفسهم في كفاية البلاغ واستفاضته وقوة البرهان ونصاعته. ولا ينبغي كذلك إهمال الدور التضليلي الذي لعبته شتى الأذرع الإعلامية للدولة، والذي يتوقع أن يبقى من خلال التيارات المعادية للطرح الإسلامي، أو من لا يعرفون شرف الخصومة وأدبها منهم، ولكنه يرجى ألا يكون في المستقبل بتوجيه من الدولة نفسها أو أجهزتها.
إن كل ما قيل في التعاطي مع النخب ذات الأيديولوجيات المخالفة، ينبغي أن يعتمد هنا أيضًا، من حيث طمأنتهم إلى حكمة وواقعية القطاع الأكبر من دعاة المرجعية الإسلامية، وأن أطروحات النابهين والمخلصين منهم واقعية وعملية ومرنة ولا تؤدي إلى ثيوقراطية أو ديماجوجية أو جمود أو رعونة.
ثم ينبغي لنا أن ننتبه إلى أن هؤلاء المبرزين في تخصصاتهم ينالون قدرًا كبيرًا من تكريم المجتمع لهم وقد اعتادوا على نمط خاص من المعاملة، وهذا ينبغي أن يستحضره الدعاة في التعامل معهم. إن هذا لا يعني أننا سنخصص لهم الصفوف الأمامية في مساجدنا، أو سنميزهم على عموم الناس في حلق العلم، فإن قيم العدالة والمساواة من أجمل ثوابت الإسلام وأرقاها. ولكن إنزال الناس منازلهم في خطابهم ومعاملتهم شيء والتمييز الممقوت شيء آخر، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكتب إلى هرقل فيسميه عظيم الروم، وقد قال – صلى الله عليه وسلم – : “أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلا الْحُدُودَ.” [رواه أبو داود عن عائشة]
هذا من جهة الشكل، أما من جهة المضمون، فهؤلاء يحتاجون إلى أمرين: الصبر على فضولهم الفكري، واستيعاب طاقاتهم بإيجاد مساحة في العمل الإسلامي يبرز فيها تميزهم.
أما الصبر على فضولهم، فإنه من المتوقع أن تكون حاجة هؤلاء إلى الاقتناع واطمئنان عقولهم إلى المطروح عليهم أعظم من غيرهم من عموم الناس. ولا ضير في السؤال من أجل ذلك. إن الملائكة سألوا ربهم فقالوا: “أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.” والأجمل أنه تعالى أقنعهم ببيان عملي أظهر لهم به فضل علم آدم – عليه السلام. إن النابهين لا يرضون بما يرضى به آحاد الناس، فهم يريدون الغوص في التفاصيل حتى تكتمل معرفتهم بالمسألة محل النقاش، وتطمئن نفوسهم إلى قناعاتها الجديدة. إن ذلك له فائدة عظيمة، فهؤلاء هم أقدر الناس بعد ذلك على بيان الحق والانتصار له. هذا عمر – رضي الله عنه – يقول: “مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِى شَىْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِى الْكَلاَلَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِى فِى شَىْءٍ مَا أَغْلَظَ لِى فِيهِ حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِى صَدْرِى وَقَالَ: “يَا عُمَرُ أَلاَ تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِى فِى آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟” وكان من ثمرة ذلك أنه أدرك من هذا العلم ما لم يدرك غيره حتى قال: “وَإِنِّى إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِى بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.” [رواه مسلم]
أما استيعاب تميزهم، فهذا يكون بتقدير علومهم وإظهار الاهتمام بها، وربما يكون ذلك بترتيب محاضرات عامة لينفعوا عموم الناس ببعض ما أكرمهم الله به من علوم، وهذا يختلف مع اختلاف تخصصاتهم وحاجة الناس إليها، ولكن الحقيقة أن تبسيط أعقد العلوم ممكن لمن أتقنها. والأهم من ترتيب المحاضرات لهم هو سؤالهم في مجال تخصصهم، فلا ينبغي للداعي أن يعرض للكلام عن مسألة ما، ولا يلوي على صاحب التخصص فيها يسأله، وهو جالس بين يديه أو في ناحية من المسجد أو قاعة المحاضرة. وأهم من ذلك أن ينتقل العمل الإسلامي من الجانب التنظيري إلى الجانب التطبيقي والمؤسسي، وعندها يمكنه بحق استيعاب طاقات هؤلاء النخب فيما يحسنونه. إن إنشاء أحزاب ذات مرجعية إسلامية سيستوعب – إن شاء الله – كثيرًا من هؤلاء، وكذلك المشافي ومراكز البحث والهيئات العلمية والمشاريع الاقتصادية…الخ. إن خالدًا لم يكن تميزه علميًا، ولولا الفتوحات الإسلامية لما تفجرت ينابيع عطائه وارتفع في الأمة ذكره. إن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكونوا كلهم فقهاء ومحدثين، ولكن كانوا جميعًا مهمين وأشعرهم الحبيب بتلك الأهمية وقربهم إليه، فهل ندرك بعض حكمته في استيعاب تلك الطاقات.
بقي أن هؤلاء لهم كما لغيرهم – وربما أكثر – تلك الحاجة الماسة إلى غذاء الروح وتصفية النفس، ولذلك فلا يجوز أن يهمل الخطاب الدعوي الموجه إليهم معاني إحياء الربانية وتخلية النفوس من الرذائل المهلكة وتحليتها بالفضائل المنجية وعلاج شكها واضطرابها وحيرتها بغرس العقائد الصحيحة.
عموم الناس
أما معاملة عموم الناس، فأهم ما ينبغي في معاملتهم في المرحلة القادمة هو استيعاب التغيرات العالمية، والتي رفعت من قيمة الفرد، وجعلت عوام اليوم غير عوام الأمس، وإن اشتركوا في أشياء. اليوم، هؤلاء الناس (العوام) يقرؤون ويكتبون ويستمعون إلى الإذاعات ويشاهدون الفضائيات ويطالعون الصحف والمجلات وبعضهم يقرأ الكتب والموسوعات وكثير يرتاد مواقع الشبكة العنكبوتية، أفيجوز أن يعاملوا كمن لم يكن لهم نصيب من ذلك؟ إن هؤلاء العوام أيضًا صارت قدرتهم على الفعل والتأثير في المجتمع أعظم بكثير من أقرانهم قبل خمسين سنة ولا أقول خمسمائة.
إن كتب التراث بها كثير من ذكر العوام والخواص، وإنه لا يختلف اثنان أن ثمة عوام وخواص، ولكن المقصود بالعامي في اصطلاح العلماء في كل علم أو فن أو سلوك هو من لم يكن من أهل هذا العلم أو الفن، وهذا لا يعرف فقط بين علماء الدين، ولكن بين العلماء في كل تخصص. إن الفقيه قد يكون عاميًا في الحديث، والمفسر قد يكون عاميًا في الفقه. إذًا كلمة عامي ليست سبة، ولا تعني تنقصًا من كرامة الموصوفين بها.
إن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانوا من جميع فئات المجتمع وكان منهم العالم وغير ذلك والقارئ وغير ذلك، ولكن كانت أقدار الجميع محفوظة في هذا المجتمع الأسوة. إن سيد التابعين هو أويس بن عامر القرني – رحمه الله – وقد أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عمر – رضي الله عنه – أن يسأله الدعاء إذا لقيه ولم يكن أويس – رحمه الله – ممن يعرف بالعلم أو يشار إليه بالبنان في عصر التابعين، بل لم يكن يعرفه أحد إلا قليل ممن حوله، ولولا ما كان من إخبار رسول الله عنه، لما بقي له بين الناس ذكر. إنه قد يكون من بين هؤلاء العوام من يرجح في الميزان على ألف ممن يذيع صيتهم وتملأ الآفاق أخبارهم من النخب بل والدعاة أنفسهم.
بقي أن هناك من هؤلاء العوام همجًا رعاعًا، وهؤلاء إنما استحقوا هذا الوصف لا لضعف علمهم أو فقرهم، بل لضعف إيمانهم وسوء أدبهم، فلا يمكن وصف قوي الإيمان الخلوق بشيء من هذا، وليست قلة العلم كذلك هي سبب ذلك الوصف، ولا حتى في وصية علي لكميل التي قسم الناس فيها إلى عالم ومتعلم وهمج، بل هم كذلك لإعراضهم عن العلم وردهم للحق، فالقسمة ثلاثية لا ثنائية. إن هؤلاء واقع لا مراء فيه في كل أمة، ولعل المصطلح الشائع والمقابل للهمج، في الدلالة العرفية بالإنجليزية هو (Mobs).
إن الواجب على الدعاة أن يحرروا كلامهم حتى لا يفهم منه غير ما يريدون، أو يقع خطابهم عن الهمج على العوام من حيث لا يشعرون. ثم الواجب في التعامل مع العوام هو تحقيق التواضع لهم الذي لا يرى صاحبه لنفسه فضلاً على أحد، وتجنب الخطاب الاستعلائي، حتى مع العصاة والمفرطين منهم. ينبغي ألا يغيب عن أحدنا ولو للحظة انتساب هؤلاء إلى أمة الحبيب وجماعة المسلمين، وما يقتضيه ذلك من حقوق وتكريم.
ومن الواجب على الدعاة أن تكون لهم خطة في رفع هؤلاء العوام والنهوض بهم. إن المرحلة السابقة كانت العناية فيها كبيرة بكسب هؤلاء العوام لصالح الطرح الإسلامي في مواجهة حملات التشويه له وتغييب الأمة عن دينها وروافدها الحضارية وإعادة صياغة وعيها الجمعي. أما وقد انحاز كثير منهم لهذا الطرح، وصار الدعاة مرجعية طائفة عظيمة منهم، فينبغي الآن صرف جانب أكبر من عنايتنا إلى النهوض بهؤلاء روحيًا وعلميًا وفكريًا وسلوكيًا. إن رسول الله قد بدأ دعوته مع قوم كان كثير منهم يهيلون التراب على بناتهم أحياءً ويصنعون آلهة من العجوة فإذا جاعوا أكلوها، ثم نقلهم إلى صناع أعظم الحضارات الإنسانية في بضع وعشرين سنة. إن بعض الدعاة لا يحسن النزول إلى العوام في خطابه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. والبعض يحسن ذلك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ولكن من هؤلاء من ينزل إليهم في الخطاب ولا يصعد بهم، بل ولا يعبأ بالصعود أصلاً. خذ على سبيل المثال لغتنا العربية، التي هي وعاء ثقافتنا ومفتاح الخريطة إلى فهم ديننا. إن النهوض بها وحض الناس على صيانتها لمن الواجبات الشرعية المؤكدة. إنه لا ينكر على بعض الدعاة الكلام باللهجات العامية لإفهام الناس، ولكن عدم العناية بالعربية، وتهوين الخطأ فيها لا يجمل من داع للإسلام، وهو كذلك لا يجمل من أي منتسب إلى هذه الأمة. إن الخطأ في اللغة الإنجليزية في بلد كالولايات المتحدة أمر يعير به الساسة، سيما إن كثر. إنني أدعو من يتقن اللغتين العربية والإنجليزية إلى سماع بعض تسجيلات المناقشات البرلمانية في الكونجرس الأمريكي ومجلس الشعب المصري. إن المقارنة ستكون مفجعة بين فريق يحرص على فصاحة العبارة وجزالة اللفظ وآخر لا يقيم وزنًا لشيء من ذلك بحجة أنهم ليسوا في “حصة عربي.” كيف يؤتمن على وجدان أمة وثقافتها وتاريخها ومستقبلها من لا يحسن فهم لغتها أو التعبير بها.
الشباب
الشباب أجمل الأعمار، ولذلك يقال لأهل الجنة: “وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا، فَلا تَهْرَمُوا أَبَدًا.” [مسلم عن أبي سعيد] ولكن الشباب كذلك من عموم الناس، ومنهم النابه وغيره، فلم نفردهم بالكلام؟ إن ذلك لما لهم من أهمية في صناعة الحاضر والمستقبل، ولما رأينا من بركة اهتمامهم بالشأن العام، فهم من أطلق شرارة الثورة المصرية الشعبية الأولى في تاريخنا. إن الإسلام قامت دعوته الأولى على أكتاف ثلة من الشباب، وقد كانوا الأسرع دائمًا لقبول الحق، كونهم لم تُفسِد فطرَهم بعد آثام المجتمع الذي يعيشون فيه. إنك تجد مصداق ذلك في كتاب الله: “إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَـٰهُمْ هُدًى.” [الكهف: 13] “قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُۥ إِبْرَٰهِيمُ.” [الأنبياء: 60] “فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ.” [يونس: 83]
والشباب ليس مسوغًا لعدم توسيد الأمر الخطير لأحد، بل العكس، فهذان أبو بكر وعمر يرسلهما رسول الله في جيش تحت إمرة أسامة بن زيد وهو دون العشرين، ثم هما يختاران زيد بن ثابت لجمع القرآن، فيذكران له سبب ذلك: “إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وقد كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ” [البخاري] وقد ولى رسول الله عتاب بن أسيد على مكة بما فيها من شيوخ قريش وعمره إحدى وعشرون سنة، وما كان سفراء رسول الله مصعب ومعاذ إلا شبابًا. إنهم الأسرع استجابة للحق وتضحية في سبيله، فعن أبي بكر بن أبي موسى أن أباه قال: “سمعت رسول الله يقول: “إنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيوفِ.” فقال رجل [في رواية الحاكم: شاب] رثُّ الهيئة: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم. فكسر جَفْن سيف معه، ثم قال لأصحابه: السلام عليكم، ثم دخل في القتال فضرب به حتى قُتل.” [مسلم]
إن الشباب كانوا مادة الصحوة الإسلامية ولا يزالون، ولكن الصحوة قد عمرت ولله الحمد في أكثر البلاد وكثر شيوخها، فوجب التنبه إلى ضرورة تجديد الدماء وتصعيد الشباب إلى الأدوار القيادية، فإن أسامة قاد جيشًا في وجود أبي بكر وعمر، ومعاذ حاز شرف السفارة لرسول الله والمدينة زاخرة بشيوخ المهاجرين والأنصار. ولا بد أيضًا من السماح للشباب بالتجربة بما في ذلك من احتمال الخطأ أحيانًا، فهكذا يتعلمون. إنه لا يسوغ أن يظن الشيوخ أن الشباب ينبغي أن يتعلموا من تجاربهم، ويتتبعوا آثارهم قصصًا، فلا تكون لهم تجربتهم الخاصة. ومن غير الحكمة كذلك أن يهمل الشباب نصيحة الشيوخ، فيدخلوا في كل نفق مظلم دخله من سبقهم ليدركوا أن طريق الخلاص ليس في نهايته. إن الاعتدال والتوسط مهم في ضبط المعادلة بين تواصل الأجيال والإفادة من تجارب الشيوخ من جهة وتحقيق الذات واكتساب الشباب للحكمة بالتجربة العملية من جهة أخرى. إن الأمة تعز وتسود وترشد إذا ما تصالحت أجيالها وتراحمت وتعاونت.
لم أعرض في كلامي عن معاملة المخالفين في الفكر إلى معاملة الدعاة بعضهم لبعض على اختلاف مشاربهم، وليس ذلك لعدم أهمية هذا الأمر، فإن كثرة تدابر الدعاة وطعنهم في بعضهم لمما تبكي له قلوب المخلصين قبل عيونهم، ولهو شجى في صدور المؤمنين وغصص في حلوقهم، ولكن هذا مقال يطول ولا ينضبط إذا عولج باختصار، وهو كالدخول بين العصا ولحائها. ولكن إن كانت من نصيحة للقواعد العريضة فهي الاستزادة من العلم قبل تبني مواقف قطعية وحدية من المخالفين لهم، فسيجدون أن كثيرًا من مقالات الإسلاميين اليوم على اختلاف مشاربهم إنما هي مما اتسعت له صدور السابقين، أو قد يظهر لهم أن الصواب كان مع مخالفهم، وإنما أتوا من قبل من قلة علمهم.
أتانا أن سهـلاً ذمّ جهـلاً – أموراً ليس يدريهن سهلُ
أموراً لو دراها ما قلاها – ولكن الرضا بالجهل سهلُ
كما ينبغي إزالة الغموض عن بعض المصطلحات كالسلفية والصوفية مثلاً والمنتسبين إليهما، وذلك حتى لا يظلم أحد بجريرة آخر ينتسب أو ينسب إلى نفس المصطلح العام ولكن بينهما بعد المشرقين، فهذا من البغي وهو معجلة عقوبته – نسأل الله العافية.
إن واجب حماية الدين من البدع والضلالات وواجب حماية الأمة من التمزق والاحتراب يحتاجان إلى حكمة العلماء الراسخين الربانيين وتلاقح أفكارهم وتضافر جهودهم. ولعلي أختم هذه الفقرة بحكمة لبعضهم، وهو العلامة ابن باز – رحمه الله – إذ شكى إليه بعض الناس من إحدى الجماعات العاملة للدين، فأجابهم قائلاً:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم – من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
لعله كان من المناسب أن نضمن هذا المقال الكلام عن معاملة غير المسلمين من شركاء الوطن، ولكنني آثرت أن أعرض لذلك مع معاملة غير المسلمين عمومًا في الحديث عن تحدي الأبواب المفتوحة. وليس ذلك تنقصًا من شراكة هؤلاء لنا في الوطن ولا جمعًا لهم مع غير المسلمين من غير أهله، ولكن تسهيلاً للتقسيم.
في المقال القادم يكون حديثنا إن شاء الله عن تحدي الأبواب المفتوحة.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه