كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
كنت جالسًا في أحد المساجد بالولايات المتحدة، فجاءني أحد المسلمين الجدد وقال إن بالباب كافرًا يسأل عن كذا وكذا. وفي مسجد آخر، جمعني الله بجماعة من المسلمين والمسيحيين واليهود، فقال أحد المسلمين، وهو من المقدمين في الجالية، إن الإسلام يجعل الإيمان مشاعًا بين أصحاب الديانات السماوية، فأجاب أحد المسيحيين العرب – وكان اللقاء بعد الجمعة – قائلاً: فلم إذًا قرأتم قبل صلاتكم: “وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا- مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.” [الكهف: 18-19] فأجاب صاحبي المسلم بأجوبة ليس فيها مقنع، فاحتجت إلى التعقيب، ومن ثم دخلت معه في حوار أمام الناس، أحببت ألا أطيله، فقلت: ماذا يقول الإسلام في رجل كفر بنبوة موسى أو عيسى عليهما السلام، فقال: يكونون كفارًا. فقلت: أفجعلت محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أهونهم على ربه، فالكفر به وحده هو المباح؟
إن تلكما الحادثتين تعكسان طرفي الإفراط والتفريط في النظر إلى الآخر. إن هناك إسلامًا وكفرًا بلا شك، ولكن ما الداعي إلى وصف صاحبنا في المثال الأول ذاك الرجل بالكفر؟ ألم يسعه أن يقول إن بالباب رجلاً أو أحد الجيران أو غير ذلك من الأوصاف؟ إن تحرير القول في الإيمان والكفر لا يدعو إلى الجفاء في معاملة غير المسلمين أو خطابهم، أو الخطاب بشأنهم.
وفي الجهة الأخرى، فإن كثيرًا من هؤلاء – سيما الغربيين – لا ينتظرون منا تأشيرات لدخول الجنة، ولسنا نملكها، فلم لا يكون الحوار “التقريبي” مختصًا بما يمكن التعاون فيه من أمور تصلح بها حياتنا وحياتهم وحياة سائر الناس. أما الحوار عن المعتقدات الدينية، فهو حوار دعوي، يعمد فيه كل طرف إلى إقناع الآخر بما عنده.
إن بر غير الظالمين من أصحاب الأديان الأخرى والإحسان إليهم وحسن معاملتهم، كل هذا من تعاليم ديننا. ولكن البر والقسط لا يشترط له إثبات الإيمان لهم، ولا حاجة للزج بهذه المسألة في كل حوار واعتبارها شرطًا لتأليف الناس، فإنها تصرفهم عن السعي في إنضاج حوار نافع يجمع أطرافه على منع الظلم وإحقاق الحق، وتحقيق الأمن، والعمل من أجل العدالة الاجتماعية، والازدهار الاقتصادي، ورعاية ذوي الحاجات، وحماية المجتمع من الشرور المتفق عليها، بل وحماية البيئة التي هي ميراث مشترك للإنسانية. ثم إن حاجة مسلمي الهند والصين وأوروبا وبعض البلاد الأفريقية إلى تألف الهندوس والبوذيين والملحدين والوثنيين، قد لا تقل عن الحاجة إلى تألف أهل الكتاب، فهل ننكر وجود حقيقة الكفر؟ وماذا يكون الإيمان إذًا إن لم يكن ثم كفر؟
إنه لا بد لأي مذهب أو دين من حدود تفصله عن باقي المذاهب والأديان، يكون من يصدق بها ويذعن إليها مؤمنًا به ومن يكذب بها أو يجحدها كافرًا به. فالكفر بالشيء نقيض الإيمان به وليس بينهما شيء من دونهما.
أما سعي البعض إلى وصف جميع الناس أو أصحاب الديانات السماوية – كما يسمونها – بالإيمان، فهذا مخالف لما تضافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، بل وأصحاب الشرائع المنزلة، ولا تقبل سواه العقول المستقيمة. إن الله يقول:”إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً.” [النساء: 150 – 151] ويقول: “وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً.” [الفتح: 13] ويقول: “يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.” [آل عمران: 70]
والأدلة في ذلك يضيق عن سردها المقام، ولكن قد نقل الإجماع على ما قررنا من كفر من لم يؤمن برسول الله ويتبعه من كل الأمم خلق من محققي العلماء، كابن حزم في مراتب الإجماع وعياض في الشفا وابن تيمية في الفتاوى.
إن الإسلام ليس الدين الأوحد الذي يقرر أن هناك إيمانًا وكفرًا وأن الناس مؤمنون وكفار، بل إن التوراة والإنجيل وما سبقهما من رسالات، كلها أكدت ذلك. لكن الذي يقلق الغربيين من كلمة كفر وكافر هو أنها كانت تعني في حقب من تاريخهم مستباح الدم. وهذا ما يختلف فيه تاريخ الإسلام، بل وتاريخ طوائف من مسيحيي الشرق. إنهم أيضًا وجدوا في كتبهم ما يبررون به تلك الحروب الدينية التي أتت على الأخضر واليابس في بلادهم قبل غيرها، وكانت ضد أصحاب الديانات الأخرى، كاليهود والمسلمين، وكذلك أصحاب الفرق الأخرى، كما كان في الحروب الصليبية، والتي شملت أيضًا الوثنيين في شرق أوروبا والزنادقة بفرنسا وغيرهم، ثم في حرب الثلاثين عامًا بين الكاثوليك والبروتستانت. في سفر الخروج مثلاً: “لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها، ولا تعمل كأعمالهم، بل تبيدهم وتكسر أصنامهم، وتعبدون الرب إلهكم.” [الخروج 23 : 24-25.] وينسب إلى موسى في [سفر العدد: 31/17-18] أنه قال: “فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهنّ لكم حيّات.” ونحن لا نشك أن مثله لا يكون من موسى عليه السلام، وندرك أيضًا أن من مقالات التوراة والإنجيل ما هو بخلاف ذلك، ومن اليهود، وبالأخص المسيحيين، من يؤمن بالعدل ويسعى إليه، ولكن إيراد هذه النصوص إنما هو لبيان أن القاعدة الفكرية للإسلام – التي يتهمونها – إنما هي خالية تمامًا من مثل هذا الغلو في التعامل مع الآخر؛ وجاء تاريخه، في العموم، بشهادة الآلاف من المنصفين من غير المسلمين من المؤرخين والمفكرين بل والساسة، ليعكس إلى حد بعيد تلك المرجعية الفكرية المتسامحة، وإن حصلت تجاوزات ناتجة عن الخطأ البشري في تطبيق النص الإلهي.
ولكن، يتساءل بعض الناس، أليس في تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار ما يؤدي إلى احتقان المشاعر وحصول التظالم؟ والجواب أن هذا التقسيم إنما هو وصف لواقع، وليس منشئًا له، فلا سبيل إلى إنكاره. أما تسببه في حصول التظالم، فليس في الإسلام ما يبرر ظلم أحد لأحد مهما اختلفت الأديان.
ويقول آخرون، فإذا أقررنا بأن هناك كفرًا، فلم لا تكون البراءة من الكفر دون أهله، فنتجاوز بذلك تأزيم الأمور بين الناس؟ والجواب أن هناك بالفعل فرقًا بين الفعل وفاعل بعينه. فليس كل صاحب بدعة مثلاً يسمى مبتدعًا، وقد يكون للفاعل عذر من جهل أو خطأ أو نسيان. ولكن لا يمكن التفريق بين الفعل والفاعل بإطلاق فيقال إن المرء ينبغي أن يبغض السرقة، ولكن يحب السراق، أو لا يكون له منهم موقف.
إن المعقول عند التأمل هو أن يبغض المرء الرذائل وأهلها، وكذلك يحب الفضائل وأهلها. وإن النتيجة المنطقية لذلك أن يبغض المسلم الكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وتكذيبه، ومن ثم الواقعين فيه. وهذا البغض هو البغض الشرعي، الذي هو تعبد لله بحب ما يحب وبغض ما يبغض.
ولكن هناك عدة أمور تحتاج إلى بيان، منها: أن هذا البغض لا يحمل على العدوان، ولا يمنع من البر، فالإسلام دعا إلى العدل، بل والبر، في التعامل مع المخالفين. قال تعالى:
“يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.” [المائدة: 8]
وقال: “لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ.” [الممتحنة: 8]
ومن المهم بيانه أيضًا أن هذا البغض قد يجتمع مع حب من نوع آخر، وهو الحب الجبلي. وتفسير ذلك أن الصالح يبغض النميمة والنمامين، فهل يبغض أمه النمامة التي هي أبر الناس به وأعطفهم عليه؟ والجواب: نعم، من جهة كونها نمامة، ولكنه سيحبها من جهة عطفها عليه، بل ومن أجل سائر محاسنها الأخرى. ولا عجب في ذلك، فإن المرء، كما قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – وغيره، يحب من وجوه ويبغض من وجوه.
إن الوشائج النفسية مع غير المسلمين لم تحرم، وقد تنشأ لاعتبارات اجتماعية كقرابة أو مصاهرة، أو مصلحية كشراكة وتجارة ونحوها، والمرء مجبول على حب من يحسن إليه، بل ربما لا يملك أن يدفع عن نفسه حب جار كريم خلوق متودد، أو زوجة مطيعة بارة حنونة. وقد أذن الله في الزواج من الكتابية مع ما يكون بين الزوجين من ود، قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.” [الروم: 21] وقد خاطب الله رسوله فقال: “إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ.” [القصص: 56] وجمهور المفسرين على أنها تعني من أحببته، وهو أبو طالب.
ولكن ليست هذه المودة من جنس الحب في الله الذي هو شأن خاص بالمسلمين، فالمسلمون إخوة متحابون، وإن لم يلتقوا أو يتعارفوا أو يكن بينهم ما يدعو إلى التحاب الجبلي. قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” [الحجرات: 10] وقال: “إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعْبُدُونِ.” [الأنبياء 92]
فإن قيل فإن الله أيضًا يقول: “لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…” [المجادلة: 22].
فالجواب بأن ذلك في حق المحادين لا عموم الكافرين، وقد يجيب البعض بأن البر لا يعني الود، وهو صحيح، ولكن النهي عن الموادة إنما ثبت في حق المحادين، ولا شك أن التعبير بهذا دون الكافرين له مغزى. فإن قيل فإن الله أمرنا بالتأسي بإبراهيم ومن معه، الذين أعلنوا بعداوة الكفار وبغضهم، وجعلوا الغاية التي ينتهي عندها ذلك كله الإيمان بالله وحده، لا مجرد ترك المحادة، كما في قوله تعالى: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ.” [الممتحنة: 4]
فالجواب أن هذا كان في حق قوم إبراهيم ومن على شاكلتهم من المحادين، وفي الآية ما يدل على ذلك، فإننا مأمورون بدعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نقول لهم حسنًا وأن نبرهم ونقسط إليهم، وهذا كله لا يجتمع مع إبداء العداوة والبغضاء، ولاحظ أن القضية هنا ليست مجرد العداوة والبغضاء، بل إبداؤهما. أما جعل الإيمان هو الغاية التي تنتهي عندها العداوة فوجيه، وذلك لأن من بلغ ما بلغه قوم إبراهيم من الفجور في الخصام، فلا يرجى أن يغير من حاله هذه إلى المسالمة والقسط إلا أمر جلل يزلزل كيانهم الكافر الظالم، ولا يكون ذلك سوى بالإيمان بالله الواحد.
والخلاصة أن الحب والبغض أنواع، فمنه الشرعي الذي يبذل لوجه الله، وهذا هو حب الإيمان وفروعه من الطاعات وأهلهما، وبغض الكفر وفروعه من المعاصي وأهلهما، والنوع الثاني وهو الجبلي، الذي ينشأ من وشائج وعلاقات بين آحاد الناس، كالنسب والمصاهرة، والجوار، والصحبة الحسنة، ومنه ما جبل عليه المرء من حب من يحسن إليه. كما أن الشخص الواحد قد يحب من وجوه ويبغض من وجوه، فيحب لصدقه وأمانته مثلاً، ويبغض لقسوته وجفائه. فإن قلت إن هذا في حق المسلم، أما غيره فالكلام عن أنواع الحب (شرعي وجبلي) لا وجوهه، فليكن، فلا مشاحة هنا في الاصطلاح.
والمحصلة التي ينبغي أن تكون واضحة، فإن الذي سيتمخض عن هذا كله في معاملة آحاد المخالفين في المعتقد من يهود ومسيحيين وغيرهم ستحدده مواقف هؤلاء من الإسلام وأهله، فالعدل مبذول منا لكل أحد، والفضل مبذول لمن يستحقه، فمن كان محادًا لله ورسوله مستهزئًا من الإسلام وأهله، فلا جرم سنبدي له ما يستحقه من العداوة والبغضاء، ومن كان مقسطًا عاملناه بالفضل الذي هو خير من القسط، ومن كان محسنًا متوددًا، فلن يسبقنا إلى فضائل الرحمة والعطف والكرم والبر وحسن الصحبة.
إن أكثر أسباب الاحتقان في الخطاب الإسلامي تجاه الغرب ليست نابعة من مبادئ عقدية، فلا هي بسبب تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، ولا هي كذلك بسبب البراءة من الكفر وأهله، بل إن الله يقول: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” [البقرة: 83] قال عطاء: للناس كلهم، وقال ابن عباس – رضي الله عنه – “لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك”. [صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد – رقم: 848]
إن سبب الاحتقان إنما هو في هذا التاريخ الطويل من الصراع بين تلكما الكتلتين البشريتين، وهو نزاع كان مسيحيو أوروبا أصحاب النصيب الأوفر في ابتدائه وإذكائه، كما حصل في الحروب الصليبية، والتي استمرت مائتي عام، وإن كان بعض الطغاة من حكام المسلمين قد أعطاهم نوع ذريعة لبدايتها، ولكن لم تكن ثمة ذريعة لاستمرارها لمائتي عام. ثم جاء الاستعمار بعد ذلك لينكأ جرحًا قديمًا. ثم جاءت عملية زراعة إسرائيل في قلب الأمة، وهي ما كانت لتبقى وتتجبر من غير دعم الغرب لها. أما فتوحات الإسلام الأولى، فقد أخرجت الرومان من أرض احتلوها لتبسط عليها قيم الحق والعدل، كما شهد بذلك من شهدوا تلك الحقبة من أصحاب الأرض الأصليين.
لكن أنحن أبرياء من كل لوم؟ كلا، فإننا مسؤولون عن بعض هذا الاحتقان، فقد قبلنا بحكم الطغاة لنا، بل أطرنا له بتسويغات لا يسعفها شيء من الخطاب المنزل. ثم إننا بدل أن نلوم أنفسنا وحكامنا على ضعفنا وتخلفنا الذين مكنا منا خصومنا، بل أخرجانا من مقام الفعل والتأثير إلى مقام الانفعال والتأثر، كان أكثرنا يهاب ذلك، ومن ثم كان الأيسر والأسلم أن نصب جام غضبنا على المستعمر، حتى بعد خروجه بعشرات السنين. إن المؤامرة جزء من تاريخ الإنسانية، ولن يعدم أصحابها حججًا صحيحة عليها، لكن أمة بحجم أمتنا، إذ تركن إلى تحميلها كل إخفاقاتها على مدى قرون متطاولة، فإنها تظلم نفسها، ويضلها الغاوون حتى لا تأخذ بأسباب العلاج التي تبدأ بمحاسبة النفس والتخلص من أسباب الضعف الداخلية، ومنها الاستبداد والظلم.
ونحن العرب كذلك أصحاب دواوين الحماسة، نفرغ فيها طاقتنا الغاضبة، فيظهر خطابنا أحيانًا مبالغًا فيه. ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – -يكره تهييج المشاعر وتزيين الباطل بالكلام المسجوع، وقال مرة لأحدهم منكرًا: “أسَجْعٌ كسَجْعِ الأعْراب؟” [متفق عليه من حديث المغيرة] إن قلة الفعل وكثرة الكلام صارتا علامتين على واقعنا المعاصر، ولست أرى العلاقة بينهما إلا عكسية.
إن الشق الآخر من عقيدة الولاء والبراء، وهو الولاء، لا يبدو أنه يمكن أن يسبب إزعاجًا للغربيين، ولكن الحقيقة أن كثيرًا منهم لا يعجبه ما بين هذه الأمة من وشيجة وثيقة العرى تأبى القطع أو التهوين. إن الحديث عن الخلافة مثلاً يزعجهم، وقد يكون هذا خوفًا طبيعيًا من قوة الخصم، ولكنه لا يبرر لهم التشنيع على المسلمين من أجل سعيهم للوحدة التي عاشوها بالفعل لمئات السنين، بينما يسعون هم إلى توحيد أوروبا، ولا يجد كثير منهم حرجًا في رفض عضوية تركيا في هذا النادي المسيحي لإسلامها.
ولكن ألا نعذرهم بأن التاريخ شاهد على أن الإفراط في معنى الولاء، كما في القبلية والوطنية وغيرهما، قد أدى بالفعل إلى حروب ونزاعات لا تخمد حتى تشب ثانية؟ قد يكون لهم عذر حتى نبين لهم المفهوم الإسلامي للولاء ونلتزم به. إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد خلص هذا الولاء العقدي من الشوائب التي تصيب معنى الولاء في العموم، وذلك عندما قال: “انْصُر أخَاك ظَالماً أو مَظلُوماً”، فقال رجل: يا رسولَ اللهِ أنْصُرُه إذْ كان مظلوماً، أفَرأيتَ إذا كان ظالماً كيف أنْصُرُه؟ قال: “تَحْجِزُه أو تَمْنَعُه من الظُّلم، فإن ذلك نَصْرُه.” [أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه] ما أجمل تعليمه وما أحسنه! إنه ولاء لا يحمل صاحبه على بغي أو عدوان أو هضم حق أو مشايعة على باطل. بل لقد تنزلت من القرآن آيات تدافع عن يهودي اتهمه منتسب للإسلام بسرقة ظلمًا، فقال الله تعالى لرسوله: “إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا.” [النساء: 105] ولقد ذكر الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في الظلال معنىً جميلاً، وهو أن الخائن هنا كان من الأنصار الذين آووا ونصروا، وكان تثبيت التهمة على اليهودي يبعد شبح الشقاق بين الأنصار، وذلك بنسبتها إلى أحد يهود المدينة الذين ما برحوا يكيدون للمسلمين بها ويؤلبون عليهم المشركين ويحرضون المنافقين. لقد جاءت هذه الآيات ليقول الله سبحانه للجماعة المسلمة إن العدل بين الناس، كل الناس، هو أس المنهج الرباني، فهو بذلك فوق كل الاعتبارات المصلحية.
إذا علم ذلك، فإننا لا نحتاج إلى تبرير ولائنا للمسلمين. وليس يحق لهم أن يسائلونا عنه، ولا عن إرادة الوحدة فيما بيننا، والتي لا عز لأمتنا بدونها، حتى وإن كان ذلك يخيفهم، فنحن مسؤولون عن أفعالنا ومسالكنا، لا عن تكهناتهم وهواجسهم.
وأخيرًا، فإني قد رجوت من الكلام عن هذا الموضوع وضع تصوري له موضع النظر، لا الافتئات على مرجعيات الأمة من الراسخين من العلماء الذين لن يتحرر خطابها إلى الآخر إلا بتحريرهم أو تقريرهم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه