الأنانة (Solipsism) نظرية فلسفية رديئة، حتى أنها من شدة رداءتها لم يتبنها (في أجلى صورها) أحد من أباطرة الفلسفة ممن يهيمون في كل الوديان. والأنانة هي الإيمان بأنه لا يمكن التيقن إلا بوجود الذات (العقل/الوعي) فقط، وفي أكثر صورها تطرفًا تعني بالنسبة إلى معتنقها أن كل ما حوله ليس إلا نتاجًا لوعيه، وأن وعيه وحده هو فقط الموجود حقيقة. طبعًا صاحب هذه المقالة ينبغي ألا يخبرنا بها، إن كان صادقًا في اعتقاده، لأننا ببساطة “غير موجودين”.
لكنك لو تفكرت معي لوجدت أننا كثيرًا ما نتصرف كأننا وحدنا أصحاب العقول، وكأنه ليس ثم عقلاء غيرنا أو نحن ومن يوافقنا حذو القذة بالقذة. يؤدي بنا هذا إلى حوار الطرشان، وليس المقصود بالطرشان هنا من لا يسمعون الأصوات، ولكنهم من لا يسمعون سماع تدبر يفيدهم، ولا يفهمون المعاني، لأنهم بكل بساطة لا يسعون إلى ذلك ابتداءً.
لقد بين القرآن هذه الظاهرة أروع بيان إذ قال تعالى: “وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ” [البقرة:171] لقد أثبت لهم سماع الأصوات (الدعاء والنداء) ونفى عنهم سماع التدبر، ثم وصفهم بالصمم، إذ لا يفيد سماع الأصوات دون فهم المعاني؛ ولا تفيد كذلك قراءة الحروف المجموعة في كلمات ثم جمل، إن كان القارئ معرضًا عن التدبر.
سل نفسك قبل أن تنظر في مقال خصمك أو كلام محاورك (حتى من تظنه أولى بالخطأ من الصواب)، هل يمكن أن يصيب من يغلب عليه الخطأ؟ فإن كان الجواب بنعم، فاجتهد في إنصافه والتأمل فيما يقوله فلعلك أن تفوز منه بفائدة، وإن كان هو نفسه معرضًا عن الانتفاع بها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، بل لم تمنع شيطنة الشيطان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يقول لأبي هريرة عنه إذ دله على قراءة آية الكرسي عند النوم: “صَدَقَكَ وهُو كَذُوب” [البخاري].
والعاقل كذلك لا يمنعه عدوان خصمه عليه من إنصافه والإقرار له بما معه من الحق. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استدان من رجل مالاً فجاء يتقاضى منه وأغلظ له القول فهمّ به أصحابه، فقال لهم: “دَعُوه فَإن لصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً”. وروي أنه – صلى الله عليه وسلم – كان قد استدان من زيد بن سعنة اليهودي، فجاءه قبل أن يحل الأجل، وقال: يا محمد أوفني حقي، فإنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْل [تماطلون]. فهم به الصحابة، فنهاهم – صلى الله عليه وسلم -، وقال لعمر: “كنت وإياه أحوج إلى غير هذا؛ كنت أحوج بأن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالرفق” فداه أبي وأمي! انظر كيف لم تمنعه – صلى الله عليه وسلم – غلظة الرجل في مطالبته قبل حلول الأجل، من أن ينصفه، إذ هو قبل ذلك صاحب حق.
في أيامنا هذه ما أحوجنا جميعًا إلى سماع التدبر وإنصاف المخالف! الإسلاميون يحتاجون إلى ذلك فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الآخرين من شركاء الوطن وخصوم السياسة والفكر، والليبراليون والاشتراكيون … وكل فرقاء السياسة والفكر – ورحم الله شوقي إذ قال: كلنا في الهم شرق.
وحتى لا يكون الكلام كله من جنس تحصيل الحاصل أو توضيح الواضح، فدعني أنصح نفسي – ومن سمع – أن نفتش عن الحكمة في قول الموافق والمخالف، وربما عاهدنا أنفسنا، كبداية، على الاجتهاد في استخراج ولو فائدة واحدة من أي مقال لأي أحد، والإقرار بها، حتى لا يحرمنا من إدراك الحكمة غمط الناس، وحتى لا نقع في أية درجة من الأنانة.
وصلى الله على محمد، والحمد لله رب العالمين.
د. حاتم الحاج