الحمد لله،
الحرية معنى جميل تتوق إليه نفوس البشر جميعًا، ولا ريب أن الليبرالية المعاصرة قد لبت حاجة البشر إلى التحرر فاستمتع المواطن العادي في البلاد الغربية بقدر كبير من الحرية، ولا يعكر على ذلك وجود قوى تحرك تلك المجتمعات وقيود غير مرئية، فالحقيقة في نهاية المطاف هي أن الفرد العادي يستمتع بقدر من الحرية لا يتوفر تحت أنواع أخرى من الحكم الشمولي المؤدلج منه وغير المؤدلج.
بيد أن أكثر الليبراليين ليبرالية – سوى المتطرفين – لا ينازع في أن للمجتمع حقوقًا ومصالح عليا تقف عند مقاطعها حريات الأفراد. يظهر ذلك بجلاء في الجانب المالي والاقتصادي، حيث لا توجد دولة لا تسن قوانين لحماية المجتمع وتنظيم عمل السوق مهما كان هذا السوق حرًا. وكلما سار النظام في اتجاه تنظيم الدولة لعمل السوق ورعاية العدالة الاجتماعية كلما اقترب من الاشتراكية، إلا أن هذه الاشتراكية في صورها الأجلى تجنح بالنظام نحو مضادة الفطرة التي فطر الناس عليها فتقتل المنافسة وتخنق الإبداع وتورث الشعوب اللامبالاة والكسل. تحديد هذه النقطة التي تزيد عندها أضرار تدخل الدولة على فوائده هو ما أعيى الاقتصاديين والساسة على مدى أزمنة متطاولة. والسؤال الآن هو ما إذا كانت المرجعية الإسلامية ستحدد هذه النقطة لنا بوضوح؟ الحق أنه لا يقول ذلك إلا مغامر أو غير مدرك لطبيعة التوجيهات الإسلامية في النظام المالي والاقتصادي للمجتمع. لقد جاءت تلك التوجيهات عامة وتركت للعقل البشري مساحة واسعة لبذل الجهد واستفراغ الوسع في إدراك مصالح الناس وتحصيلها. لا ينكر أحد أن فهم أبي ذر لتلك التوجيهات كان مغايرًا لفهم عثمان بن عفان – رضي الله عنهما -، ولا يجرؤ أحد على اتهام أحدهما بنبذ المرجعية الإسلامية. لكن هذه التوجيهات، على عمومها، فيها من الهداية ما به يصلح البشر إن أحسنوا فهمها ثم أطلقوا العنان لعقولهم في الإفادة من التجارب البشرية ودراسة الواقع وتطبيق هذه التوجيهات فيه من غير تعسف ولا تطرف ولا ادعاء لعصمة ولا سحب لصك المرجعية الإسلامية من أحد إلا فيما هو من قواطع الدين التي لا يختلف فيها أهل العلم. إن هذا يعني أن المستظلين بالمرجعية الإسلامية سيكون بعضهم أقرب إلى الرأسمالية وبعضهم أقرب إلى الاشتراكية، لكن مرجعيتهم الإسلامية ستحميهم من الغلو والشطط وتمنحهم بدائل وخيارات أخرى وتنبههم إلى مواطن العطب، وما حديث الانهيار الاقتصادي العالمي منا ببعيد ولا ما أدى إليه من مآس اجتماعية هائلة، وما هو بخاف أيضًا أن الربا والغرر وبيع الديون كانت الأسباب الكبرى وراء هذا الانهيار.
وفي جانب السياسة، قل مثل ذلك أو قريبًا منه، فإن صلاحيات الحاكم وحدود معارضته، وتوازن السلطات، والرقابة الشعبية، وغيرها من الأمور تختلف بشأنها مقالات الإسلاميين، فلم يكن موقف الزهري وسعيد بن جبير من حكم بني أمية واحدًا ولا كان موقف أبي حنيفة ومالك من حكم بني العباس واحدًا، ومن ثم سيكون للمرجعية الإسلامية بفهم العقلاء من أصحابها دور في منع الشطط، ولكنها لن تنهي الخلاف ولن تحجر على العقول في مسعاها إلى إدراك مصالح الناس وتحصيلها.
وفي جانب التصرفات الشخصية والعلاقات الاجتماعية يقف الليبراليون والاشتراكيون في جهة والإسلام في جهة أخرى، وذلك لأن الفريقين يرغبان بتطرف في تحجيم دور الدولة في تنظيمها. السبب في ذلك هو أن العقل البشري قد يدرك المخاطر العاجلة أو متوسطة المدى ولكنه يغفل عن تلك الأبعد، أو يتغافل عنها لضعف الأخلاق وسطوة سلطان الشهوة، فقد يرى خطر ترك السوق من غير رقابة وتنظيم، ولكن الإباحية والإثارة الجنسية والإعلام الماجن وانتشار العلاقات المحرمة كلها أمور تفتك بالمجتمع على مدى أبعد وتؤثر في المدى القريب على جوانب غير محسوسة لكثير من الناس الذين تلهيهم موافقة شهواتهم عن إدراكها، بينما يرى العقلاء تلك المخاطر التي تهدد الاستقرار الأسري والاجتماعي بل والاستقرار النفسي لآحاد الناس جراء تلك الأمور. لقد أقام الله للناس شواهد من أفعالهم على أن ترك الحبل على الغارب حتى في هذا الباب غير ممكن، فأنت تجد تعاطي المخدرات وزواج المثليين ممنوعًا في أكثر البلاد ليبرالية وخروج النساء إلى الشوارع عاريات الصدور مخالف للقوانين في أكثرها … إلخ. المشكلة إذًا ليست في مبدأ المنع الذي اتفق عليه الجميع، ولكن في تحديد المساحة الممنوعة. والحق أن الإسلاميين يختلفون كذلك في هذه المساحة، ولكن في كل الأحوال لا يمكن لهم أن يتفقوا مع الليبراليين في هذا الشأن، وإنما يمكن أن يرضوا بالتفسيرات الأيسر للنصوص الدينية في تنظيم هذا الجانب، وعلى الليبراليين أن يدركوا خصوصية المجتمعات الإسلامية حتى وإن عجزوا عن إدراك الحكم الإلهية في تلك التشريعات.
المرجعية الإسلامية ستحمينا من الشطط من غير أن تحجر على عمل عقولنا، وسيخفف القبول بسقفها من الاستقطاب الشديد في المجتمع المصري، وسيجد أصحاب الميول الاشتراكية والرأسمالية فيها من الهداية ما يجنبهم الغلو دون أن يحرمهم من إدراك مصالح الناس. ولمن يتهم الإسلاميين بالمتاجرة بالدين، أقول، اقبلوا أنتم بمرجعيته ظاهرًا وباطنًا، وعندها ستحرموننا من تلك التجارة المزعومة. وأخيرًا، فإن شركاء الوطن من المسيحيين لا يتوقع أن يقتنعوا بعظمة المرجعية الإسلامية، ولكن ينبغي أن يدرك عقلاؤهم أن الالتزام بقوانين يوقرها أكثر الشعب ويتدينون بطاعتها سيوفر مناخًا من الأمن والاستقرار تنطلق معه البلاد إلى مستقبل أفضل لجميع أبنائها.
بقي أن استعجال صراع الأيديولوجيا سيهزم جميع أصحاب المبادئ لصالح أصحاب المصالح، من انتمى منهم إلى أيديولوجيا بعينها ومن لم ينتم إلى شيء ممن يسمون بالوطنيين أحيانًا والشرفاء أحيانًا لأنهم لا يرون إلا ما يرى السيد الرئيس القائد السلطان أو من يدفع أكثر.
وصلى الله على محمد