في المقال السابق كان كلامنا عن مستقبل العلاقات الدولية مع قرب وصول الإسلاميين إلى المشاركة الفاعلة في حكم بلادهم. ولكن الكلام كان من زاوية عملية ولم نتعرض فيه إلى الخلفية الأيديولوجية للإسلاميين وأثرها على طبيعة هذه العلاقات. وفي هذا المقال وما يليه نناقش الأمر – إن شاء الله – من الناحية العقدية الفكرية الثابتة، وذلك لنجيب على السؤال المذكور في عنوان المقال: هل المرجعية الإسلامية تدفع إلى الصدام؟
إن سؤالاً بهذا التعميم وفي أمر بهذا الخطر يحتاج إلى شيء من التفصيل، فالتدافع بين الأمم سنة كونية، ونحن لا نعرف في تاريخ العالم مرحلة خلت منه. ونحن كذلك لا نعرف أمة ذات بال لا تعنى بحماية أمنها ومصالحها ولا تستعد للصدام مع من يهدد شيئًا من ذلك. ولكننا نحتاج من أجل إجابة هذا السؤال إلى ذكر القواعد العامة للعلاقة بين الأمم كما بينها الوحي المعصوم ومارسها المسلمون في معظم تاريخهم، سيما في زمن خير أجيالهم، أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
القاعدة الأولى: إيثار السلمإن من ينكر فضيلة الجهاد في سبيل الله وفضل الشهداء في الإسلام وتربيته أهله على معاني الشجاعة والإباء والعزة والفداء، ربما لا يعرف الكثير عن هذا الدين. وفي نفس الوقت، فإننا نعتقد أن من يراه داعيًا إلى الصدام مع كل المخالفين قد جاوز الصواب. وكيف لا يكون ورب العزة يقول: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.” [الأنفال:61] ويقول: “فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً” [النساء: 90] ورسوله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “يا أَيُّهَا النَّاس لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فإذا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ.” [متفق عليه من حديث عبد الله بن أبي أوفي.]إذًا فالتأكيد على فضل الجهاد ليس لرغبة في الصدام، ولكن لوجوب الاستعداد له كون الواقع الإنساني أعظم دليل على كثرة وقوعه، وذلك لكثرة جنوح البشر إلى العدوان. وليس هذا عجبًا في الإسلام ولا كان بدعًا فيه، ولكنه شبه إجماع إنساني على فضيلة القتال والتضحية بالذات والمال في بعض الأحوال. ويبقى السؤال المهم هو ما طبيعة تلك الأحوال؟ أي:لم الصدام ومع من؟
إن سؤالاً قد طرح للنقاش بين الفقهاء سابقًا وهو ما إذا كان السلم هو الأصل في العلاقة مع الأمم الأخرى أم الحرب. ولقد رأى الجمهور أن السلم هو الأصل ورأى آخرون أن الحرب هي الأصل ولكن بعض هؤلاء ربما كانوا يعبرون عن واقع الإنسانية في أزمنتهم. فلو أعدنا طرح السؤال بصيغة أخرى فقلنا: هل السلم أولى بنا أم الحرب، فلعل جواب كثير منهم سيكون بل السلم؛ ألم يقل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالإضافة إلى ما سبق: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ويعطى على الرِّفْقِ ما لَا يعطى على الْعُنْفِ وما لَا يعطى على ما سِوَاه.” [متفق عليه من حديث عائشة واللفظ لمسلم] أما ما جاء من نصوص في قتال الكافة، كقوله تعالى “وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً” [التوبة:36] وقوله “قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” [التوبة:29] وقوله “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ” [البقرة:193] وقول النبي – صلى الله عليه وسلم: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فإذا فَعَلُوا ذلك عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على اللَّهِ” [متفق عليه من حديث أبي هريرة] فهذه لا يمكن الاستدلال بها على قتال كل الناس فظاهرها – كما بين شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة «قتال الكفار ومهادنتهم» – معارض بغيرها من النصوص، بل الإجماع، وهو كذلك معارض بسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم. أما ترى أن ظاهر بعضها يفيد قتال كل الناس حتى يؤمنوا وحتى لا يكون دين في الأرض سوى الإسلام، وهو خلاف الإجماع. ألا ترى أن رسول الله قد سالم أقوامًا ووادعهم، بل قال: “دَعُوا الْحَبَشَةَ ما وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُمْ.” [أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الجامع] وهو ظاهر على أن الأمر بالقتال لا يعم جميع الناس، بل قال ابن القيم – رحمه الله في هداية الحيارى: “فلما بعث الله رسوله استجاب له ولخلفائه بعده أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله. وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).” إن هذه الآيات والأحاديث التي يظهر منها الأمر بقتال الكافة إنما تعني قتال أقوام بعينهم في زمانه – صلى الله عليه وسلم – أو القتال في أحوال معينة كالدفاع عن المستضعفين كما في قوله تعالى: “وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ …” [النساء: 75] أو لمنع الطغاة من فتنة من دخل في الإسلام عن عبادة الله الواحد الأحد كما في قوله تعالى: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ …” [البقرة:193] أو استباقًا لعدوان الأعداء كما فعل المسلمون مع الفرس الذين أرسلوا جنودًا للقبض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حياته! والروم الذين حرشوا حلفاءهم من نصارى الشام على المسلمين فقطعوا عليهم الطرق وحاصروا تجارتهم بل وقتل شرحبيل بن عمرو الغساني حليف الروم الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى حاكم بصرى. أيسوغ لمن يروج أن أمريكا غزت العراق استباقًا لعدوان الأخيرة عليها أن يستنكر استباق المسلمين لعدوان الروم بعد كل ما فعلوه وهم على تخوم بلادهم وقادرون على غزوهم. إن وقائع التاريخ المؤكدة تصرخ معلنة عن أحق الفريقين بصواب الدعوى.
إنه إذا سالمنا أقوام ممن يحكمون بالعدل في الجملة ويؤمنون المسلمين بين ظهرانيهم ولم يتحرشوا بنا، فلم نقاتلهم؟ إذا كان مطلوبنا ألا يحرم أحد من حقه في عبادة ربه آمنًا وأن لا يقهر الجبابرة أحدًا من خلق الله وألا يهدد أحد مصالح أمتنا، ثم حصلنا على كل هذا بالسلم، فهل يسوغ لنا القتال؟ أو يكون اختياره في تلك الحال هو الرفق الذي يحبه الله في الأمر كله؟
إننا ينبغي كذلك ألا نهمل اختلاف أحوال الناس بين الحاضر والماضي، فإن حسن تحقيق مناطات الأحكام الشرعية يعتمد على حسن فهم الواقع الذي تنزل فيه تلك الأحكام على أعيان الوقائع. إن زماننا هذا قد استقرت فيه الشعوب وتميزت للدول حدود ثابتة، بخلاف الأزمنة الماضية التي كانت الشعوب فيها لا تحكم نفسها، بل تحكمها أسر وطوائف يتمدد سلطانها ثم ينكمش لتحل محلها أخرى. إن منازلة تلك الطغم الحاكمة في ساحات القتال كان لا يصيب عوام الناس والفلاحين والنساء والضعفاء بالأذى إلا قليلاً، ثم كان هؤلاء يستمتعون بعدها بحكم عادل بدل آخر فاجر رزخوا تحته عقودًا أو قرونًا، فيفرحون بذلك كما فرح نصارى الشام بتخليص المسلمين لهم من الروم وحلفائهم. أما الآن فثمن الحروب هرج كثير وفساد عريض وبؤس لا يفرق بين مقاتل ومدني، فإن القنابل والصواريخ ليست كالسهام والحراب.
في الماضي كان الجهاد أحيانًا ضرورة لتأمين وصول الدعوة إلى كل الخلق، وذلك بإزاحة العقبات المانعة من ذلك كالطغاة وأنظمتهم الجائرة. أما في زماننا هذا، فوصول الدعوة صار ممكنًا بجهاد البيان واللسان عن طريق الإذاعات والفضائيات، بل وشبكة الإنترنت التي تنقل الكلمة المكتوبة والمسموعة والصورة كذلك. وكذلك يمكن للدعاة السفر إلى البلاد البعيدة ومخالطة أهلها ودعوتهم وهم في ذلك كله آمنون على أنفسهم.
إننا ينبغي ألا نتصلب في تنظيرنا عند ثنائيات لا نحتاج إليها كما في ثنائية الأصل السلم أو الحرب وثنائية الدفع والطلب. إن الجهاد مشروع لحماية القيم والمصالح العليا للأمة، وقد يكون في زمن هو الأصل في العلاقة مع فريق من الناس وفي آخر هو الاستثناء، وقد يكون كذلك دفعًا أو رفعًا (فيما لو كان العدو قد استولى على أرض الإسلام) وقد يكون طلبًا للدفاع عن حق الناس في عبادة الله رب العالمين أو لدفع القهر عن المستضعفين أو استباقًا لكيد المعتدين الخائنين. ليس في هذا كله دعوة للصدام ولكن إلى سلم قائم على العدل، فمن أراد سلمًا بغير عدل، فهو الداعي إلى الصدام، فلن يكون الظلم سبيلاً إلى سلام أو وئام ما بقي في نفوس البشر شيء من معاني العزة والإباء والنجدة والفداء. في المقالات القادمة نعرض – إن شاء الله – إلى بقية القواعد الحاكمة لعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه
هل المرجعية الإسلامية تدفع إلى الصدام؟
Date: مايو 6, 2012
|
|
Views: 950
|
Share:
Filed Under: قضايا معاصرة