لعلنا ينبغي – إن أردنا الإنصاف – ألا ننزعج ممن يطرح هذا السؤال. وذلك لأن العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي لم تكن ودية في التاريخ الحديث، ولا القديم، ووصلت إلى ذروة المواجهة مع الإسلاميين خصوصًا خلال العقد الماضي. وكذلك لأن بعض الخطاب الإسلامي المعاصر فيه احتقان، وأحيانًا تجاوز في القول والفعل، سببه في الأغلب مظالم سياسية وقعت علينا نحن المسلمين، وإن كنا لا نبرئ أنفسنا من كل خطأ وتبعة، فقد تسببنا أحيانًا في كثير من معاناتنا.
يتساءل الغربيون، وربما بعض المسلمين، ماذا لو وصل الإسلاميون إلى الحكم،؟ هل سيسعرون الأرض حروبًا ونزاعات، ويوترون العلاقات الدولية؟ أم سيخف الاحتقان الذي سببه تكميم أفواههم وتكبيل أيديهم، من قبل الأنظمة الأوتوقراطية وحلفائها الغربيين، والذين منعوهم من محاولة الارتفاع بشأن أمتهم ونصرة قضاياها العادلة؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تكون بالنفي أوالإثبات من غير تفصيل.
أما إشعال الحروب، فلا أظن أن أحدًا من عقلاء الإسلاميين سيغامر بمصائر البلاد ويزج بها في أتون حروب مع الغرب أو الشرق، وأما توتر العلاقات، فإن هذا سيعتمد على عوامل كثيرة، منها أمور واقعية عملية وأخرى أيديولوجية مبدئية. ولعلي أبدأ بالأمور العملية فأناقشها في هذا المقال، على أن يكون الكلام عن العوامل الأيديولوجية في مقال قادم إن شاء الله.
إن العلاقة بين طرفين لا يحددها طرف واحد، بل كلاهما، وفي تعقيدات السياسة الدولية، تتدخل أطراف أخرى كذلك. فلو بدأنا بالإسلاميين، لقلت إن الجواب سيعتمد على عدة عوامل منها:
1. سرعة استيعابهم للواقع الدولي المعاصر بعد دخولهم معترك السياسة الدولية ومزيد من اطلاعهم على تعقيداتها وموازين القوى الحاكمة للعلاقات بين الدول، وكلما كان إدراكهم لهذه الأمور أسرع، كانت اختياراتهم أكثر براجماتية – والمقصود هنا هو المحمود من معنى هذا المصطلح.
2. مدى قدرتهم على كسب ثقة التيارات المنافسة الشريفة في أنهم لن ينقلبوا يومًا على خيارات الشعوب، ولن يستأثروا بإدارة البلاد وتقرير مصيرها. وهناك تيارات معادية لا تعرف شرف المنافسة وليس عندها من الحس القومي أو الوطني ما يحجزها من الوقيعة بين الغرب والإسلاميين لمآرب حزبية أو شخصية، فينبغي الانتباه لها واحتواء ما يمكن احتواؤه منها وتحييد ما يمكن تحييده والعمل المستمر لإبطال مكر من يتولى كبره منها.
3. مدى قدرة التيارات المعتدلة داخل كوادرهم وقواعدهم على كسب ثقة القطاع الأكبر من أنصار الخيار الإسلامي وتوجيه دفة الفعل السياسي.
4. حسن ترتيبهم لأولويات العمل العام في المرحلة القادمة، والبداءة بالمعاني الكبرى للدين الجامع، كالعدل والمساواة والإرفاق بالفقراء ومحاربة الفساد وسائر مظاهر الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وإطلاق الحريات المنضبطة بقواطع الشريعة والأعراف الصحيحة واستيعاب الأقليات الدينية بجعل حقوق المواطنة مبذولة بالسوية لكل المواطنين.
5. مدى قدرتهم على إحداث النهضة الاقتصادية، والتي ستكسبهم المزيد من الدعم الجماهيري، وتغير من حسابات موازين القوى، وتدفع الغرب إلى التعقل في التعاطي معهم. وكل هذا بدوره سيغنيهم عن محاولة إذكاء وتكريس مشاعر الاستياء الشعبي من الصلف الغربي لصالح أحزابهم، بل ربما صاروا عند حصول نوع من توازن المصالح المتبادلة دعاة إلى مزيد من تحسين العلاقات بالغرب والإفادة من منجزاته الحضارية، فهم أقدر على ذلك لأنهم أبعد – عند جمهور العقلاء – من غيرهم من تهمة العمالة والانبطاح أمام الآخر. وإنهم كذلك الأقدر على الأخذ الواعي المستبصر والمتدرج من منجزات الغرب الحضارية، من غير إحداث ارتجاجات وتصدعات في البنيان الاجتماعي والثقافي لشعوبهم.
ومن جهة المجتمع الدولي، والذي يمثله ويقوده الغرب، فإن العلاقة ستحكمها عدة عوامل، منها:
1. سرعة استيعاب الغرب لكون الحركة الإسلامية ما هي إلا رأس الجبل الجليدي، وأن لها جذورًا في عمق الهوية الشعبية تجعلها لا مجرد حركة كالشيوعية مثلاً يمكن البطش بها حتى تختفي، ولكنها تعبير عن حالة جماهيرية عريضة. لقد آن للغرب أن يعي أن حربه الضروس على ما يسميه بالراديكالية الإسلامية، والتي امتدت لتشمل كل الفاعلين في العمل الإسلامي الحركي النهضوي قد باءت بالفشل، بل واستمراره فيها سيعظم نفوذ الاتجاهات الأكثر راديكالية داخل كوادر وقواعد تلك التيارات. ألم يزل الغرب يفعل ذلك؟ بل لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن من وقود الصحوة الإسلامية المعاصرة ما فجع المسلمين به من حروب شنتها قواه الكبرى على دولهم وحملات للتطهير العرقي في البوسنة والبلقان والشيشان، ودعم للأنظمة العلمانية، التي تسلطت على الشعوب منذ رتب لها الاستعمار السافر ذلك قبل خروج عساكره من البلاد، ولكنه كان بالفعل قد ألهب العاطفة الإسلامية وأذكى أوار شرارها.
2. تبقى القضية الأخطر والأكبر هي ما مارسته وتمارسه إسرائيل من جرائم في فلسطين، يعلم كل مسلم عاقل أنها ما كانت تستطيعها لولا الدعم الغربي غير المحدود لها. إن الذي سيحدد أثر تلك القضية على تأزم العلاقات أو انفراجها بين الغرب من جهة والعالمين العربي والإسلامي من جهة أخرى هو مدى التضحية التي سيرضى القوم بتقديمها من أجل إسرائيل، وهذا يتوقف على سرعة استيعابهم للتغير الجيوسياسي والديموغرافي للعالم، والذي يجعل من إسرائيل عبئًا عليهم تفوق تبعاته كل مصلحة قد يجنونها من دعمهم لها. ولكن قد لا يكون الأمر بتلك السهولة، فإن منهم من يعلم ذلك كله، ولكنه يخشى من سطوة اللوبيات الموالية لإسرائيل، فيتجنب ما قد يزعجهم حفاظًا على مكاسبه السياسية، وإن كان بذلك يضر بمصالح بلاده. ولعل هذا من مثالب الممارسة الغربية المعاصرة للديموقراطية، والتي مكنت أصحاب المال والنفوذ من التحكم بمصائر العباد.
3. ما سيصل إليه الحوار الغربي الغربي على مختلف المستويات من خيار بشأن التعامل مع دول العالم الإسلامي، وهل سيسمحون لها بالمنافسة الشريفة أسوة بالصين والهند مثلاً، أم سيبقى الخيار المفضل هو السعي إلى إضعافها وتعطيل كل مسعى للنهضة بها لتبقى تحت سيطرتهم الكاملة، ولتبقى كذلك حديقة خلفية لهم يستغلونها متى شاؤوا فيما شاؤوا ويبيعون لها ما شاؤوا بما شاؤوا ويشترون منها ما شاؤوا بما شاؤوا كذلك. إنه من حق كل الدول أن تسعى إلى البقاء في القمة والصدارة، ولكن المهم هو كيف تفعل ذلك. لقد كان لقرب العالم الإسلامي من أوروبا والتاريخ المشترك بينهما أثر على تحديد خياراتها منه ومن ورائها كل الغرب، والآن نرجو أن يستوعب الغرب الواقع الجديد للعالم ويدرك أن قرب العالم الإسلامي ينبغي أن يكون حافزًا إلى تحسين الروابط مع شعوبه، فقد جربوا الاستعمار السافر ثم المقنع ولم تزدد تلك الشعوب إلا مرارة منهم، فهلا جربوا أن يؤسسوا لمجتمع دولي جديد يقوم على الاحترام المتبادل لحقوق الإنسان ولحقوق الشعوب كذلك! إن بالغرب تيارات عاقلة ترغب في هذا الخيار، ولكن هل تكون لهم الغلبة؟ ما يعنينا هو حتمية التواصل معها وتزويدها بالحجج الواقعية على صحة توجهها، وذلك من أجل صالحنا وصالحهم وصالح الإنسانية.
وهناك عوامل أخرى خارج المعادلة ولكنها تؤثر فيها، ومن أهمها:
1. طبيعة النظام العالمي الجديد، وهل سيبقى أحادي القطب أم تتعدد أقطابه، ليحصل التدافع الذي يمنع من طغيان القطب الواحد المؤذن بفساد الأرض. هل ستستمر دول مثل الصين والهند والبرازيل في الصعود لتشكل منافسًا حقيقيًا للغرب، وهل تلحق بلادنا بها، مما يجعل الغرب، حتى وإن بقي الأقوى، أحد الفاعلين في الساحة الدولية، لا السيد المطاع الذي يتوقع أن يقابل أمره بالائتمار ونهيه بالانزجار ولا يرضى بدون ذلك.
2. قدرة شعوب الأرض كلها على تحجيم طغيان الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات، والتي صارت أقوى من أكثر الحكومات. إن هذه الشركات قد بلغت من عنفوان النفوذ أنها تستطيع أن تسقط حكومات وتحرك جيوشًا وتقسم دولاً. وهي تعمل لمصالحها، وقد يزين لها الشيطان كذلك أن صلاح العالم مرتبط بقدرتها على قيادته لما تراه الأصلح. والخطر بالنسبة لنا خاصة هو أن هذه الشركات لها خصومة مع الإسلام لعدة أسباب منها ما هو وجودي، فهي لا تريد أن يبقى لدين أو عقيدة فكرية أو عزة قومية أي سلطان على الشعوب، لتصوغ هي الوعي الجمعي لكل الإنسانية، وقد ركع الجميع أو كادوا وأبى الإسلام، ومنها ما هو سياسي، ومن أهمها بالنسبة إلى الإسلام خاصة تحريمه لأركان النظام الاقتصادي العالمي المعاصر من الربا والغرر والمعاملات القائمة على الغبن وعقود الإذعان فاسدة الشروط.
3. حجم التغيرات المناخية والبيئية والتي تفتح الباب واسعًا أمام احتمالات شتى كاتساع دائرة التصحر وربما غرق مدن بأكملها، وهذا سيؤدي إلى أشكال من إعادة التوزيع الديموغرافي للمعمورة، وكل هذا يؤثر لا محالة على علاقات الدول ببعضها، وبالأخص المتجاور منها.
لعله من الظاهر أن أكثر العوامل المذكورة هنا لا تختص بالإسلاميين وحدهم، بل كل من يصل من الشرفاء إلى سدة الحكم بالعالم الإسلامي. وإننا كمسلمين نؤمن أن الله غالب على أمره، ولكننا نحب العافية والخير لنا ولكل الناس، فوجب أن نأخذ بأسباب ذلك متوكلين على الله وواثقين في نصره لمن نصره – نعم المولى هو ونعم الوكيل.
في المقال القادم إن شاء الله أبين أن المرجعية الفكرية للإسلاميين، في حقيقتها النقية ومنابعها الصافية، لن تكون في حال وصولهم إلى الحكم سببًا في تأزم العلاقات بين دول العالم الإسلامي وغيرها، بل تكون – إن شاء الله – عودة الإسلام لدائرة التأثير رحمة للعالمين.
هل سيوتر وصول الإسلاميين إلى الحكم العلاقات الدولية؟
Date: مايو 6, 2012
|
|
Views: 1٬201
|
Share:
Filed Under: قضايا معاصرة