لعل قائلًا يقول أونحتاج إلى مناقشة موضوع المثلية من الناحية الفقهية؟ طبعًا إن كان المقصود تحريم إتيان الرجل للرجل والمرأة للمرأة، فلا حاجة إلى مناقشة هذا الأمر، ولن ننجر إلى ذلك إلا لرفع شبهة أو التباس عن جاهل أو حديث عهد بإسلام، وذلك حتى لا يصير الأمر موضع مناقشة وأخذ ورد.
أما بالنسبة لتعاطي المسلمين، والدعاة منهم خصوصًا، مع هذه الظاهرة، فأظن أننا ينبغي أن نراعي أمرين اثنين:
- وجوب البيان بصدق وأمانة وفطنة وكياسة
- عدم التورط في الصراع الإعلامي والقانوني والسياسي
أولًا وجوب البيان
قال الله I: ]وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.[ [آل عمران: 187] إن الكذب على الله مهلكة لكل متجرئ، وعدم البيان من أهل العلم عند وجود المقتضي هو خيانة للأمانة التي حملوها والميثاق الذي أخذ منهم. يضاف إلى ذلك أن المحافظين من غير المسلمين سينظرون إلى خطاب هؤلاء على أنه محض نفاق، وسيترسخ لديهم انطباع أننا لا نبالي بصلاح المجتمع ولا نسعى لإصلاحه، بل نعنى فقط بمصالح أقليتنا.
إنه قد يتصور أحيانًا أن يخطئ المرء فيؤخر البيان عن وقت الحاجة، ولكن الذي لا يتصور من مؤمن عاقل هو أن يكذب على الله. قال الله I: ]إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ[ [النحل: 116]
لكن ينبغي أيضًا أن يعلم المبلغون عن الله أنه ليس كل ما يعلم يقال في كل مكان وزمان وحال و “ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة”، وعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة يعني جواز تأخيره إلى وقتها. إن هناك ما يقال وما يترك وما يقال في الأمور الجسام ينبغي أن يتكلم به العالم الأريب البليغ. وهذه بعض النقاط التي ينبغي التمهيد بها للكلام عن تحريم معاشرة الرجال للرجال والنساء للنساء في الإسلام:
- الأقليات المسلمة لا تسعى لفرض شرائع دينها على الآخرين، وليس شيء من الحدود يقام خارج ديار الإسلام – حتى على المسلمين.
- الإسلام ينهى أتباعه عن التحسس والتجسس وتتبع العورات وهتك الأستار والغيبة والسباب والظلم، وليس في الإسلام ما يسمى بالــــ witch-hunting (صيد السحرة) أو محاكم التفتيش.
- الإسلام لا يحرم مجرد الشعور الذي لا يستطيع الإنسان الانفكاك منه ودفعه عن نفسه، بل ولا يحرم ما يمكن رفعه لكن في دفعه مشقة، كما نقله السيوطي عن العز.[1] قال رسول الله r: “إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ”[2]
- الإسلام كذلك لا ينكر على صاحب هيئة معينة أو مشية أو طريقة في الكلام حتى يظهر سوءًا من قول أو عمل. عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي r كان عندها وفي البيت مخنث فقال المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية إن فتح الله لكم الطائف غدا أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي r: “لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ”[3] وفي الحديث أن المخنثين كانوا يعيشون آمنين في المدينة، بل ويدخلون على أمهات المؤمنين بيوتهن، وليس ثمة حاجة إلى القول بالنسخ فغاية ما في الحديث منع من يفشي أسرار البيوت من الاطلاع على عوراتها، فلا ينكر إذًا على أحد طريقة كلامه أو مشيه وإنما ينكر (في المجتمع المسلم) على من لبس لبسة غير جنسه أو أظهر التشبه بهم، فقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي r أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقيل: يا رسول الله إن هذا يتشبه بالنساء، فنفاه إلى النقيع.
ثانيًا: عدم التورط في الصراع الإعلامي والقانوني والسياسي
لا أرى أن نكون جزءًا من هذا الصراع إلا أن نستنصح فننصح أو نسأل عن تعاليم ديننا فنبينها وأن نصرف جهدنا إلى رعاية شبابنا وتحصينهم من تلك المزالق. أما عدم الانخراط في الصراع الإعلامي والقانوني والسياسي، فهذه أسبابه:
التدرج في عرض الإسلام وترتيب الأولويات في إطار الممكن والمقدور
يقول البعض ليس بعد الكفر ذنب، وهو يريد بذلك أن يريح نفسه من هم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية ولو حتى بتمعر الوجه أو ضيق الصدر، ثم هو لا يذكر سوى آيات البر بغير المسلمين دون تلك التي تشن الغارة على معتقداتهم الباطلة، فيتحصل من ذلك أن “راحة البال” لا تكون إلا لمن بانت عن بلاد الإسلام داره. ويجيب البعض الآخر فيقول إن الرسل جاؤوا ليدعوا الناس إلى التوحيد ولكنهم في نفس الوقت أمروا بالإصلاح وشنوا الغارة على المنكرات المنتشرة في مجتمعاتهم. فهذا هود يقول لقومه: ]أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ[[الشعراء: 1128-130] وهذا لوط يقول لقومه: ]أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ[[الشعراء: 165-166] وهذا شعيب يقول لأصحاب الأيكة: ]أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ[ [الشعراء: 181-183] ولقد كانوا يفعلون ذلك بكل ثقة ورباطة جأش، بل كانوا يوبخون أقوامهم ويقرعونهم على ما يقعون فيه من الشرك والمنكرات، كما هو مبثوث في كتاب الله.
ولقد كفانا الفريق الثاني بعض الجواب على الفريق الأول. أما الجواب على ما يكون من غلو واندفاع عند الفريق الثاني فلا بد أن يبدأ بالإقرار بأصل حجتهم ثم يأتي التفصيل، فأقول نعم نحن أتباع الرسل ويجب علينا الاتساء بهم ولكن في حدود قدراتنا، فسنة الرسل ليست شيئًا واحدًا، فمنها ما هو ميسور لكل أحد ومنها ما هو منوط بالقدرة ومنها ما هو سنة للعلماء دون العامة ومنها ما هو سنة للحكام والقضاة دون آحاد الناس. إن الذي حطم الأصنام هو الذي جعل الله النار عليه بردًا وسلامًا والذي قال لفرعون ]وإني لأراك يا فرعون مثبورًا[ هو الذي شق الله له البحر فأنجاه وأغرق عدوه، إلخ. وبخلاف المعجزات، فإن هؤلاء الرسل الكرام وأصحابهم كان عندهم من الأخلاق وحسن السيرة والرصيد بين أقوامهم ما يجعل الحديث باللسان الرسالي لائقًا بهم. إن الذي يخاطب الناس بلسان إبراهيم أو صالح أو شعيب في الوقت الذي يحملون فيه صورة ذهنية مشوهة له ولأهل ملته ليس مؤتسيًا بهؤلاء الكرام في المعنى والحقيقة وإن ظهر خلاف ذلك. لقد علمنا رسول الله r التدرج في دعوة الناس، ففي الصحيحين عن ابن عباس t أن معاذا t قال بعثني رسول الله r قال:
“إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.”
وهناك اعتبار آخر مهم في الجواب على حجة اتباع هدي الأنبياء في الصدع بالحق وشن الغارة على المنكرات الظاهرة وهو أن الأنبياء أرسلوا إلى أقوام فشت فيهم المنكرات وتعددت، وبخلاف منكر قوم لوط، فإنها في الأغلب كانت مشتركًا عامًا بين تلك الأقوام، ولكن الله يحكي لنا أنهم رتبوا أولوياتهم، فاختلف خطابهم في غير الأمر بعبادة الله الواحد. وهنا يأتي تقويم المثلية في إطار باقي المنكرات المتفشية في مجتمعاتنا، فهل هي فعلًا أعظم الشرور؟ والحديث هنا ليس عن الإيمان بالله ورسوله والكفر بهما، فالمقارنة ليست واردة أصلًا، ولكن الحديث عن الحروب الجائرة والبغي والربا الذي يرهق كاهل شرائح واسعة من المجتمع ويستغل ضعفها وفقرها. اللهم إن الدماء أعظم حرمة من الأعراض والقتل العدوان شر من تلك الفواحش كلها و “دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً.”[4] وبهذا الجواب نجيب أيضًا عن حجة السفينة الواحدة وأننا جزء من هذه المجتمعات يصيبنا ما أصابها فينبغي أن نعمل لخيرها ونجتهد مع غيرنا في محاصرة الفساد، وهذا الكلام حق لا مراء فيه، بل نحن لا نقف بإرادة الخير عند حدود أوطاننا، فقد علمنا رسول الله r حب الخير لبني آدم إذ قال: “لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.”[5] ولكن من أراد دفع الشرور عن مجتمعاتنا والانخراط في الإصلاح في الفضاءات العامة سيجد مجالات أخرى أوسع وأكثر أولوية وأقل تكلفة سياسيًا وإعلاميًا من مكافحة المثلية.
الإشكالية الإعلامية والسياسية في الانخراط في هذا الصراع
سواء أصاب المسلمون أو أخطؤوا فإن القاعدة التي يبنون عليها مطالبتهم بالمساواة وعدم التمييز ضدهم هي ليبرالية المجتمع، ولذلك سيبدو خطابهم متناقضًا إذا ما كانوا جزءًا من رأس الحربة ضد المثليين. هذا لا يعني تناقض الخطاب حقيقة، ولكن يكفي تناقضه في ذهن المستقبل للاحتراز منه. بالإضافة إلى ذلك، فسوف يخسر المسلمون مناصريهم من اليسار والحال بين المحافظين من اليمين كما تعرفون، فلن يبقى إلا طائفة قليلة العدد والحيلة تدافع معهم عن حقوقهم.
عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله r قال:
“اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ”[6]
وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين
[1] حاشية السيوطي على سنن النسائي (6/ 157)
[2] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[3] متفق عليه من حديث عائشة وأم سلمة.
[4] أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير، عن عبد الله بن حنظلة، وصححه الألباني.
[5] رواه ابن حبان عن أنس وصححه الألباني
[6] متفق عليه.