نعم تزوجها r وهي بنت تسع ولا عيب في ذلك.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
يشكك بعض المسلمين فيما جاء في الصحيحين من زواج رسول الله r من عائشة ل وهي بنت تسع. وكثير من هؤلاء إنما وقعوا في ذلك ليذبوا عن رسول الله r لظنهم أن الزواج من امرأة في هذا السن أمر منكر لا يليق بمقامه r. وليس ما ظنوا صحيحًا وأبين وجه الخطأ فيه في الصفحات الآتية، وأجعل جوابي عليهم في ثلاثة محاور.
الأول: بيان إجماع الأمة على صحة ما في الصحيحين.
الثاني: رفع الإشكال عن زواج رسول الله r من أم المؤمنين عائشة ل.
الثالث: بيان خطئهم فيما ذهبوا إليه.
1) بيان إجماع الأمة على صحة ما في الصحيحين.
إن الأمة قد اتفقت على صحة أحاديث الصحيحين، وصار الصغير والكبير مدركًا لذلك، بل صار اعتقاد ذلك جزءً من الوعي الجمعي لهذه الأمة المسلمة. ولقد نقل اتفاق العلماء على ذلك طائفة من المحققين، قال الإمام النووي /: ” اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري و مسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول”[1] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية /: ” فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخارى ومسلم بعد القرآن “[2]
وما انتقد من بعض الأحرف في الصحيحين من قبل فحول المحدثين فهو معروف مذكور ولا يدخل في هذا الإجماع، وفي ذلك قال الإمام ابن الصلاح / فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر /:” ما أخذ عليهما – يريد البخاري و مسلم – وقدح فيه معتمد من الحفاظ، فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول”[3].
ولكنهم انتقدوا هذه الأحاديث من باب أنها دون ما اشترط صاحبا الصحيحين على أنفسهما من الصحة، وعابوا بعض الأحرف في بعضها، ولكن ليس في أحد الصحيحين حديث لا أصل له.
إذا تبين هذا، فإن الطعن في الصحيحن طعن في أصح كتب السنة، فهو آكد سبيل لهدم الدين وبث الشك في قلوب المسلمين، فلا يدرون بعدهما كيف تكون صلاتهم أو صيامهم أو حجهم أو معاملاتهم، فتفصيل ذلك كله إنما هو في كتب السنة. وإنه من يطعن فيهما بذلك القصد، فلا حاجة لبيان حكمه فأمره ظاهر.
ومن يقع في شيء من ذلك لتساهل أو طيش، ولكن من غير سوء طوية، فلا أقل من وصفه بقلة الروية والتجاسر على ما لا يحسن والخوض فيما لا يعنيه ولا يقدر عليه ولا يدريه. فإن كان ذلك من غير حملة العلم بالدين، فالأمر أدهى وأقبح.
وإن كان من سقط في شيء من ذلك حريصًا على الدين محبًا لسيد المرسلين، قد ساءه ما يرميه الأعداء به، فأراد الذب عن عرضه، فنرجو له، وإن أخطأ، أن يؤجر على حبه وغيرته، وننصح له بسؤال العلماء المحققين قبل الخوض في شيء من مسائل الدين.
أما ذكر شيء من ذلك في مناظرة غير المسلمين في مقام سرد ما قيل دون التحرير، بعد بيان الراجح وتوجيهه -كما سيأتي في المحور الثاني-، فربما يسوغ ذلك تحصيلا لمصلحة التبليغ، فإن باب المناظرة أوسع من باب النظر، ويسوغ في الأول ما لا يسوغ في الثاني الذي هو بدوره أوسع من باب مخاطبة العوام والتعليم.
2) رفع الإشكال عن زواج رسول الله r من أم المؤمنين عائشة ل.
1- إن العقلاء لا يقرؤون أحداث التاريخ بمعزل عن السياقات التي صاحبتها والعوامل التي صنعتها والأعراف الحاضنة لها. إن الحكم بحسن أو قبح عمل من الأعمال، عند العقلاء على اختلاف أديانهم، ليس مجردًا عن بساط الحال والملابسات التي رافقت ذاك العمل، وإنه لمما يدلل على كون الزواج ممن هي في سن عائشة ل سائغًا في أعراف الزمان والمكان الذين تمت فيهما هذه الزيجة المباركة هو أن عائشة ل كانت قد خطبت لغير النبي r قبل أن يخطبها، وهؤلاء الأعداء الذين أكثروا من الطعن عليه r لزواجه من زينب ل لمخالفة ذلك لمألوفهم وأعرافهم لم يقولوا شيئًا عن زواجه من عائشة ل.
2- إن رسول الله r قد تزوج عائشة في مكة وبنى بها بعيد قدومه للمدينة تاركًا مكة لبطش أهلها وظلمهم ولما يستقر له الأمر في مهاجره بعد، فلا يعقل أن يصادم الأعراف السائدة والحال كتلك.
3- إن أبا بكر t الذي زوج عائشة بنته لرسول الله r هو من هو عندنا نحن المسلمين، ولكنه – كما يتفق على ذلك المسلم وغيره – من قادة التاريخ العظام الذين أثروا في مساره، وإن رجلا بهذا الشرف والقدر لا يرضى لنفسه وبنته هوانا، إن كان الزواج في هذا السن ضررا لها ولشرفها وشرفه بين العرب.
4- إن تغير أعراف الناس لا ينكره عاقل، وتغيرها بشأن سن الزواج مما وقع لجميع الأمم، فلقد رفعت ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة السن القانونية للممارسة الاختيارية للجنس عدة مرات في خلال ربع قرن من الزمان فقط، فحتى عام 1889 كان السن عشرة أعوام ثم صار أربعة عشر ثم رفع عام 1897 إلى ستة عشر، ثم في عام 1913 رفع إلى ثمانية عشر. لكنه إلى الآن ثلاثة عشر في نيو مكسيكو وأربعة عشر في أيوا ومسيسيببي ومين.[4] انظر – غفر الله لي ولك – إلى ذلك، فهذه أمة غير الأمة وزمان غير الزمان وكانت السن القانونية للممارسة الاختيارية للجنس إلى ذلك العهد القريب عشرة أعوام، فكيف بأمة أخرى وأعراف أخرى وزمان آخر مضى عليه أربعة عشر قرنًا؟
إن تغيرًا هائلا بأحوال العالم في الأزمنة الأخيرة قد أدى إلى تغير هائل في أعراف أهله، فليس من الإنصاف أو الحكمة لأهل هذه الأزمنة المتأخرة أن يحاكموا تاريخ الإنسانية بمعاييرهم هم الحادثة.
5- إن المشكلة في زماننا هي علو قوم بعينهم واستبدادهم بوضع المعايير لكل الأمم فلا فرق عندهم بين أواسط أفريقيا وأصقاع سيبيريا وقبائل الهنود بأمريكا اللاتينية وشعوب الصين. إن عمل الأطفال كان عندهم شائعًا مقبولا مقننًا إلى عهد قريب، والآن وبعد استغنائهم عنه بما جمعوا من الثروات بحق أو بباطل صاروا يعيرون الأمم المحتاجة إليه. ثم إنهم لا يريدون بسط معاييرهم على أحياء العالم فقط، بل يريدون إيقاف أمم الدنيا منذ بدء الخليقة أمام محكمة أعرافهم الحادثة.
6- إن الإسلام دين واقعي يسمح للمرأة بالزواج متى رأى وليها مصلحتها في ذلك ولا يمكن زوجها من الوطء حتى تصلح لذلك عضويًا ونفسيًا. ولكنه لا يحدد للأولياء سنًا بعينها وأعراف الناس تختلف وكذلك حاجاتهم ولكل زمان ومكان ما يصلح لهن، ولقد كانت جداتنا يتزوجن في سن الثانية عشر أو نحوها ولسنا نفعل ذلك مع بناتنا. إن التوراة والإنجيل كذلك لا يحددان – في أي من نسخهما الموجودة – سنًا للزواج.
7- إن الصلاحية للمعاشرة الزوجية إنما تكون ببلوغ المرأة الحد الذي يمكن معه الوطء من غير ضرر وهو يختلف ويكون حوالي وقت البلوغ أو بعيده، فمتى إذًا تبلغ المرأة؟ إن المعارف الطبية الحديثة تفيد أن أكثر النساء يبلغن ما بين الثانيةَ عشرةَ والرابعةَ عشرةَ بمتوسط عمري قدره (12.75) سنة.ولكن يختلف سن البلوغ اختلافًا كبيرًا من فتاة لأخرى ومن بيئةٍ لأخرى؛ وهناك حالات يكون البلوغ فيها مبكرًا، بل إن فتاةً في بيرو بأمريكا الجنوبية قد حملت وولدت وعمرها آنذاك خمسة أعوام ونصف[5]. وليس البلوغ دون التاسعة بتلك الندرة، بل إن الأطباء لا يعتبرون البلوغ مرضيًا متى بلغت الفتاة سبعة أو ثمانية أعوام[6]، فإن كانت دون ذلك، ينظر في حالتها للتأكد من خلوها من أورام أو أمراض تؤدي للبلوغ المبكر، وفي أكثر الحالات لا يكون ثمة مرض[7].
8- إن الكثير من بلاد العالم ومن ولايات أمريكا وغيرها تعتبر بنت الستة عشر عامًا صالحة لممارسة الجنس والزواج.(بل الرابعة عشر أيضا كما قدمنا) والآن نسأل هل بنت التسعة أعوام ونيف كما كانت عائشة ل عند زواجها يمكن أن تكون كبنت الستة عشر عامًا في حجمها وهيكلها؟ اللهم نعم، وليس هذا مع مراعاة فرق الزمان والمكان والبيئة، ولكن معدلات النمو الطبيعية دون الاستثنائية والتي يجعلها الطب ما بين الترتيب السابع والتسعين كحد أعلى والثالث كحد أدنى تظهر أن البنات اليوم وفي ولايات وسط أمريكا تتفاوت نسب نموهم الطبيعية حتى يكون وزن بنت التاسعة والنصف في الترتيب السابع والتسعين هو عين وزن بنت السادسة عشر عامًا بل العشرين في الترتيب العاشر، وهو سبعة وأربعون كيلوجرامًا وطول الأولى خمسون ومائة سنتيمترًا تقريبًا وهو دون الثانية بتسعة سنتيمترات فقط، ومثل بنت الرابعة عشر في الترتيب الثالث. هذا كله في حدود النمو الطبيعي، وأطباء الأطفال يعرفون أن الكثير منهم يجاوزون هذه التراتيب فوق السابع والتسعين ودون الثالث دون مرض أو بأس. كل هذا الآن وفي أمريكا.[8]
9- إن تعسف الناس بأهوائهم في تحديد الصلاحية للزواج يؤدي إلى تناقض بشع، ففي نفس الدولة، يكون الزواج من بنت الرابعة عشر قانونيًا في بعض ولاياتها وفي بعضها جريمة حتى سن الثامنة عشر، يعامل زوجها كمغتصب. إن ذلك يعني أنك إن كنت شرق خط الحدود بين ولايتين كنت زوجا صالحا موافقا للقانون، وإن كنت غربه فأنت مغتصب لطفلة مسكينة تستحق أقصى العقوبة. (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)
10- إن عائشة نفسها كانت قد شبت شبابًا حسنًا، فهي القائلة – وهي أعرف بنفسها -: “إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة”، وبعد زواجه r منها بنحو عامين خرجت إلى أحد تعين الغزاة، قال أنس t: “لَمَّا كان يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ نَاسٌ من الناس عن النبي r… وَلَقَدْ رأيت عَائِشَةَ بِنْتَ أبي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ على مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِهِمْ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فتملأنها ثُمَّ تَجِيئَانِ تُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ الْقَوْمِ.”[9] إن هذا يثبت أنها شبت شبابا حسنا وصارت صالحة لدور المرأة دون أن يشغب على كونها تزوجته في التاسعة، فلا عجب أن تقدر بعض النساء في سن الثانية عشر تقريبًا على فعل ما ذكر أنس، فإن التفاوت في سرعة النمو يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى اختلافًا كبيرًا.
11- إن الطفل المساء إليه يعاني من مصاعب نفسية وإعاقات ذهنية شتى، فإن تغلب عليها فإنه من النادر أن ينبغ، فإن نبغ فلا يتصور أن ينبغ في حمل رسالة من أساء إليه ونشرها بين الناس. فهل حصل شيء من ذلك لأم المؤمنين عائشة ل؟ أم أنها كانت تقود أمة وتعلمها رسالة المصطفى الذي عاشت بقية عمرها مخلصة له ولذكراه تسميه r بالحبيب. فهل كان زواجها منه r إلا سبيلا لهنائها وعزها في الدنيا والآخرة، وهل كانت امرأة في التاريخ أسعد منها بزوجها؟ اللهم لا.
12- العجيب من أهل الكتاب أنهم يستغلون زواجه r في الطعن عليه، ولسنا نجد آية واحدة في العهدين القديم والجديد تحدد سنًا للزواج، وفي المقابل نجد في سفر العدد الإصحاح 31 الآيات 17-18 نسبتهم لموسى عليه السلام أنه قال: “فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال.وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها – لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهنّ لكم حيّات.” فهذا موسى عليه السلام يجوز في رواية التوراة وطء الأطفال من سبايا النساء.
ثم ألم تكن عائشة ل أحسن حالا من هذه المرأة التي ذكرت التوراة قصتها مع داود عليه السلام: لقد جاء في سفر الملوك الأول، الإصحاح الأول الآيات 1-3 ما يأتي: ” وشاخ الملك داود.تقدم في الايام.وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ. فقال له عبيده ليفتشوا لسيدنا الملك على فتاة عذراء فلتقف امام الملك ولتكن له حاضنة ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك. ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم اسرائيل فوجدوا ابيشج الشونمية فجاءوا بها الى الملك. وكانت الفتاة جميلة جدا فكانت حاضنة الملك وكانت تخدمه ولكن الملك لم يعرفها.” إن داود موصوف في المزامير بأنه ابن الله، فنقول لهم: اللهم إن عائشة ل قد عاشت حياة هنيئة مع سيد الخلق يسابقها وتسابقه ويمازحها وتمازحه ويعلمها ما تسود به وتعز بقية حياتها وما يرتفع به ذكرها في العالمين بعد وفاتها.
13- لو كان مراد رسول الله r الشهوة، فلم ترك عائشة عند أبيها ثلاث سنوات بعد زواجه منها؟ ولو كانت مراده من بقية زيجاته، فلم هجر نساءه عند سؤالهن التوسعة في النفقة حتى خيرهن، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب 28-29] أليس صاحب الشهوة يوسع على نسائه ويرضيهن؟ أم يحملهن على الزهد والتقشف وهو القادر على عيش الملوك؟ اللهم فصل عليه وسلم وارض عن أمهات المؤمنين اللاتي اخترنك ورسولك والدار الآخرة.
3) بيان خطئهم فيما ذهبوا إليه.[10]
أ) على سبيل الإجمال، فإنهم – هدانا الله وإياهم – يطعنون فيما ثبت في كتب الحديث بل أصحها بزعم ضعف السند، ثم يستدلون بما ذكر في كتب التاريخ التي لا يعتنى فيها بتحقيق الآثار معشار ما يعتنى بها في كتب الحديث. ثم هم ينقلون عن الكتاب الذي طعنوا فيه مستدلين به، بل عن ذات الراوي الذي سبق أن طعنوا فيه. وهو تعسف في فهم النصوص والتعاطي معها، بل ينقلون أحيانًا ما لا أصل له. وفيما يأتي نخص أحدهم بالرد على ما كتبه في إحدى الصحف.
ب) نقد رواية الصحيح بحساب عمر السيدة عائشة بالنسبة لعمر أختها أسماء بنت أبي بكر، واعتمد رواية لا تصح بأن الفرق بينهما كان عشرة أعوام ونقل عليها إجماع المؤرخين، ولا يصح شيء من ذلك، فإنه وإن سرد أسماء عدة كتب من كتب التاريخ، فإنما هي ترجع كلها إلى قول عبد الرحمن بن أبي الزناد، وقد انفرد بهذه الرواية، وهو ضعيف، فقد جاء في ترجمته في “تهذيب التهذيب” عن الإمام أحمد: مضطرب الحديث؛ و عن ابن معين: ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث، و عن أبي حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. و عن النسائي: لا يحتج بحديثه. [11] وخلافًا لهذا التحديد الذي ادعى الكاتب عليه الإجماع، جاء في سير أعلام النبلاء وكذا تاريخ الإسلام: “وكانت [أسماء] أسن من عائشة ببضع عشرة سنة”[12]. فإذا كانت الرواية التي ذكرها تدور على رجل ضعيف لا يحتج به، وهي معارضة بغيرها في كتب التاريخ، فكيف تنتهض لمعارضة ما جاء في الصحيحين؟ أما موت أسماء عن مائة عام فإنه من رواية هشام بن عروة ذاته الذي طعن فيه الكاتب.
ت) وفهم من كلام الطبري بشأن أزواج أبي بكر وأولاده بأن كل أولاده ولدوا في الجاهلية، ولا يصح، فإن الطبري / قال: «تزوج أبو بكر فى الجاهلية (قتيلة).. فولدت له عبدالله وأسماء، وتزوج أيضا فى الجاهلية (أم رومان). فولدت له عبدالرحمن وعائشة، فكل هؤلاء الأربعة من أولاده ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما فى الجاهلية». فإن صحت الرواية، فإن الطبرى يتحدث عن الأزواج ويبين أنهما كان تزوجهما في الجاهلية لا أن أولاده كلهم ولدوا في الجاهلية، وإن كان فهمه ممكنًا، فيرد المحتمل إلى القطعي الذي هو إخبار عائشة عن سنها تصريحًا في روايات كثيرة وغير ذلك من النصوص.
ث) وحسب عمر عائشة ل مقارنة بفاطمة ل، وذكر أن الفرق بينهما خمس سنين، وفاطمة ل ولدت عام بناء الكعبة وعمر النبي r خمس وثلاثون سنة، ونقل الكاتب ذلك عن كتاب الإصابة، ولم ينقل بقية المرويات وتصحيح صاحب الكتاب نفسه، الحافظ ابن حجر، لرواية أخرى تفيد أن فاطمة ل ولدت سنة إحدى وأربعين من ميلاد النبي. وليس الفارق بينهما متفقا عليه، بل قال الذهبي / في السير: “وعائشة ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثمان سنين”[13]. وفي ترجمة فاطمة قال: “مولدها قبل البعثة بقليل”[14].
ج) ونقل عن ابن كثير في البداية والنهاية: «ومن النساء.. أسماء بنت أبي بكر وعائشة وهي صغيرة فكان إسلام هؤلاء في ثلاث سنين ورسول الله r يدعو في خفية، ثم أمر الله عز وجل رسوله بإظهار الدعوة» وليس في الكتاب شيء من ذلك، كما سبق إلى بيانه الدكتور محمد عمارة. ولو كان ذلك مما وقع في الكتاب، فكيف يترك الكاتب كلام من رأى عائشة ل من التابعين ويوهمهم ويأخذ بكلام لبعض المتأخرين من أهل العلم لم يسنده.
ح) وقال: “والمؤكد أن هجرة الحبشة إجماعًا بين كتب التاريخ كانت في عام (5) من بدء البعثة النبوية ما يوازي عام (615م)” و “…خرج أبو بكر مهاجرًا قبل هجرة الحبشة”، فهناك فرق بين هجرة بعينها وتتابع ورود الصحابة إلى الحبشة مهاجرين، ولا أدري من أين جزم بأن كل من هاجر إلى الحبشة إنما هاجر في العام الخامس، فإن الهجرة إليها لم تتوقف حتى كانت الهجرة إلى المدينة. وقد أخطأ في النقل فقال: “…خرج أبو بكر مهاجرًا قبل هجرة الحبشة” والصواب “قِبَل الحبشة” أي في اتجاه الحبشة. والظاهر أنه t هاجر قبيل الهجرة إلى المدينة فإنه لما رجع إلى مكة ورد جوار ابن الدغنة بشره الرسول r فقال: “قد أريت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين”
خ) ونقد سند حديث التسع سنين بطعنه في هشام بن عروة، وليس بشيء، فالحديث رواه غير هشام كالزهري عن عروة عن عائشة وإبراهيم عن الأسود عن عائشة وكل هؤلاء من أعلام أئمة الرواية والفقه، وللحديث روايات في جل كتب السنة. أما ادعاء أنه لم يروه عن هشام إلا أهل العراق وأن رواية أهل العراق عنه قد تُكُلِم فيها، فالجواب أن هذا الحديث قد رواه عن هشام من أهل المدينة أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وابنه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة. ومن أهل مكة سفيان بن عيينة. ومن أهل الري جرير بن عبد الحميد الضبي، فلم ينفرد بروايته عنه أهل العراق. أما هشام نفسه، فقد وثقه يحيى بن معين وابن حبان وأبو حاتم وابن حجر والذهبي وغيرهم، وهو من رواة الصحيحين والسنن. والمعتمد عند أهل العلم أنه لم يختلط؛ يقول الذهبي /: “هشام بن عروة، أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبداً… “[15]
د) إن هناك الكثير من الروايات الشاهدة لصغر سن عائشة ل عند زواجها من النبي r، ففي حديث الإفك (قصة الإفك كانت فى السنة السادسة من الهجرة) المروي في البخاري تقول عائشة ل عن نفسها: «فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن..»، وقد زفت إليه r ولعبها معها، وتقول عنها بريرة إحدى جواريها لرسول الله r: «والذى بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.” وكان هذا في حادثة الإفك في السنة السادسة من الهجرة.
إن من المسلمين من يسارع إلى خنادق التبرير والاعتذار كلما عرضت لهم شبهة وسوس بها شيطان مريد إلى عدو موتور أو جاهل مغرور، ولو أحسنوا البحث والنظر لوجدوا كتاب ربهم وسنة نبيهم الصحيحة مصدرًا لكل عزة وفخار، وليس فيهما أدنى شيء يعتذر عنه أو يستحيى منه. اللهم اهدنا وسائر عبادك، وصل اللهم وسلم على خاتم رسلك وسيد خلقك محمد.
([1]) شرح مسلم 1/14
([2]) الفتاوى 18/74
([3]) هدي الساري 505
[5] Nelson Textbook of Pediatrics, 15th Ed, Page 1579-1580.
و انظر أيضًا «دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة» لمجموعة من العلماء، «بحث الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب» (ص137-142). وذكر فيه د. عمر الأشْقَر أن طفلة ظهرت عليها علامات البلوغ في الثانية من عمرها.
([6]) البلوغ عند الأطباء غير الحيض فهو يسبقه بعام أو اثنين.
[7] Saenger, Paul. Overview of precocious puberty. In: UpToDate, Rose, BD (Ed), UpToDate, Waltham, MA, 2007.
[8] http://www.cdc.gov/nchs/data/nhanes/growthcharts/set2clinical/cj41l071.pdf
[9] (ق) صحيح مسلم ج3/ص1443
([10]) أفدت في الرد من مقالين للدكتور محمد عماره ومحمود عبده الباحث فى العلوم الإسلامية، فجزاهما الله خيرًا.
([11]) تهذيب التهذيب: 6/172.
([12]) السير: 3/ 522.
([13]) سير أعلام النبلاء 3/ 429.
([14]) السير 3/ 417.
([15]) ميزان الاعتدال 4/301-302.