كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
أشرت في المقال السابق إلى المقصود من تجديد المضامين في الخطاب الدعوي، وإلى كون تجديد المضامين هو تجديد الدين ذاته، فالدين هو مضمون الدعوة. ولا شك أن تجديد المضامين، والذي لن يكون المحور الرئيس لحديثنا عن تجديد الخطاب الدعوي، سيعرض لنا في أثناء الكلام عن المحاور الرئيسة للموضوع، وهي تجديد القوالب والأساليب والعناية بأخلاق الدعاة، وذلك لتعذر الفصل الكامل بين المضامين والوسائل.
أما القوالب والأساليب وأخلاق الدعاة فهو ما سنعرض إليه – إن شاء الله – بشيء من التفصيل في إطار كلامنا عن مواجهة تحديات الحرية والغنى والأبواب المفتوحة. والفرق بين القوالب والأساليب أن القوالب هي الأوعية التي تحمل الفكرة المراد تبليغها إلى عقل المخاطَب بغض النظر عن قبوله لها أو رفضه، والأساليب هي ما يعتمد من مسالك لإقناع العقل بها وشرح الصدر لها.
فإذا كان النجاح في دعوة إنسان ما يستلزم حصول ثلاث مراحل:
1- نقل الموضوع من المرسل إلى المستقبل.
2- استقباله وفهمه على مراد المرسل.
3- قبوله.
فالقوالب تعنى بالمرحلة الأولى والأساليب بالثالثة وهما يشتركان في الثانية.
القوالب إذًا هي وسائل التوصيل بغض النظر عن الأسلوب والمضمون، فهي وسائل إيصال الفكرة إلى المخاطَب وإفهامه إياها على النحو الذي أراده الداعي سواء اقتنع بها ذاك المخاطَب أم لم يقتنع أو انشرح صدره لها أم لم ينشرح. قال تعالى: “وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” [القصص: 51]
فالدعوة قد تحمل إلى الناس عن طريق الاتصال الشخصي أو المكاتبة، وهي تشمل في زماننا الوسائل المطبوعة كالصحف والمجلات والمطويات والكتب وكذلك تصل الدعوة إلى قطاعات واسعة في أزمنتنا عبر الوسائل السمعية كالإذاعة والشريط والتسجيلات الرقمية، والوسائل المرئية، كالتلفزيون، على تنوع أشكال المعروض فيه. وهناك الإنترنت الذي يجمع المقروء والمسموع والمرئي.
ولقد استثمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كل ما توفر له من هذه القوالب فقال وكتب وعلم وخطب ووعظ ورسم وقص القصص، بل حكاها، وضرب المثل، وشرح بالبيان العملي كما في ” صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي” و “خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم”. فمن يزعم مثلا أن استخدام العروض التقديمية في دروس العلم له أصل في السنة فلن يعوزه الدليل، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: “خَطَّ لنا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ في وَسَطِ الْخَطِّ خَطًّا وَخَطَّ خَارِجًا من الْخَطِّ خَطًّا وَحَوْلَ الذي في الْوَسَطِ خُطُوطًا فقال هذا بن آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ وَهَذَا الذي في الْوَسَطِ الْإِنْسَانُ وَهَذِهِ الْخُطُوطُ عُرُوضُهُ إن نَجَا من هذا يَنْهَشُهُ هذا وَالْخَطُّ الْخَارِجُ الْأَمَلُ.” [سنن الترمذي]
أما الأساليب، فالمقصود بها ما يكون بعد تحديد الداء عند المخاطَبين من الحكمة في معالجته بتنويع البلاغ المتوازن ما بين الخطاب والمحاورة؛ والموعظة والتعليم؛ والترغيب والترهيب؛ والتنظير والتطبيق؛ والتقديم والتأخير؛ والإنذار والتبشير؛ والتدرج من غير تفريط؛ ودفع الشبهات وترسيخ الإيمان؛ ومخاطبة الروح وإقناع العقل؛ والعمل الفردي والجماعي والعمل العلمي والاجتماعي بل والاقتصادي والسياسي.
ورسول الله قد وصل الذروة في تنويع الأساليب فقد خاطب – صلى الله عليه وسلم – القلوب والعقول ورغب ورهب وقدم وأخر، وبشر وأنذر، كما بين لنا أن الأساليب تتنوع بتنوع المخاطب بل واختلاف المكان والزمان والحال، فكانت وصيته لمن استوصاه تارة “لا تَغْضَب” [البخاري] وتارة “اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ واتبع السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ الناس بِخُلُقٍ حَسَنٍ.” [مسند أحمد] وتارة “قل آمَنتُ بالله ثم اسْتَقِم” [مسلم] وتارة “لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا من ذِكْرِ اللَّهِ”[سنن الترمذي] ويسأل عن أفضل الأعمال فيختلف جوابه، فيقول لابن مسعود – رضي الله عنه –: “الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا… ثم بِرُّ الوَالِدَيْن… ثم الجِهَادُ في سَبِيل الله” [البخاري] ويقول للخثعمي: “الإيمَان باللهِ… ثم صِلَة الرَّحِم… ثم الأمْر بالمَعْرُوفِ والنَّهْي عَن المُنْكَر. [رواه أبو يعلى بإسناد جيد] ولآخر: “سُرورٌ تُدخِلُه على مُسلِمٍ أو تَكشِفُ عنه كُرْبةً أو تَقْضِي عنه دَيْنًا أو تَطرُدُ عَنهُ جُوعًا.” [في المعجم الكبير بسند حسن]. وعن ذلك المعنى يقول ابن القيم – رحمه الله -: “من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم.“[i] والفتوى أقرب للمضامين ولكن الكلام هنا ينطبق من باب الأولى على الأساليب، فإن الداعي الذي لا يختلف خطابه باختلاف المخاطبين وأحوالهم إنما هو كذاك الطبيب الذي لا يعرف إلا وصفة واحدة فهو يعالج بها كل مرضاه.
ولكن تغير الأساليب الذي نقصده إنما هو ما يكون لمصلحة الدين والمخاطَب، وليس هو التلون لمصلحة الداعي، والذي قد لا يختلف أحيانًا في الشكل عما ذكرنا، ولكنه في حقيقته عدوان على الشريعة بالهدم أو التبديل أو التشويه بحجة التجميل، والعبرة قبل سداد العمل بصلاح النية، وتجريدها أشد على السالكين من العمل نفسه، فالشرك فيها قد يكون أخفى من دبيب النمل، والسعيد من وفقه الله إلى كمال الإخلاص.
أما أخلاق الداعي وعدته فلا شك أن لها أثرًا بالغًا على قبول المخاطبين للدعوة، ولذلك كان سادات الدعاة وهم الأنبياء والرسل صفوة الخلق في الخلق، حتى جاء صفوتهم فتم به صرح الأخلاق السامية والآداب الراقية. والأخلاق التي سنعرض لها في حديثنا هي ما كان متعلقًا بمواجهة تحديات التغيير الذي ستحدثه الثورة، لا كل الأخلاق اللازمة للدعاة فذاك بحر زاخر خضم، وقد كتب فيه كثير ممن هم خير مني وأعلم وأقرب لتلك الأخلاق وألزم.[ii]
في المقال القادم إن شاء الله نبدأ في الحديث عن تحدي الحرية وما يستدعيه من تجديد في الخطاب الدعوي.