كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
لم يكن أحد يوقره أصحابه ويحبونه، بل ويفدونه بأنفسهم كرسول الله – صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك يروي البخاري عن عروة بن مسعود أنه قال: “والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.” ولكن هذا العزيز الممتنع في مدينته بعصمة الله له، ثم بمن معه من خيار البشر وصناديد العرب يتحمل أذى عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين ومكرهم وخيانتهم وتحريضهم على المؤمنين وسعيهم لإيقاع الفتنة بينهم، وعندما يقول له عمر – رضي الله عنه – دعني أَضرب عنق هذا المنافق يجيبه بقوله: “دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ الناس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.” (متفق عليه)
حتى بعد دخوله مكة، نجده – صلى الله عليه وسلم – يقول لعائشة: “لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لها بَابَيْنِ…” (متفق عليه) أيقول ذلك بعد الفتح، وقد دانت له العرب؟ نعم، فإنه طبيب القلوب الخبير بالنفوس، وقد علم أن سلطانه على أبدانهم مبسوط ولكن لم يمتد بعد لقلوبهم كما هو الحال مع السابقين من أصحابه.
إنه - صلى الله عليه وسلم – يعلمنا دروسًا في تجزؤ التمكين، وعدم المبالغة في تقدير ما منح الله لنا منه. وهناك معنى آخر مهم، وهو ملكه – صلى الله عليه وسلم – لنفسه، فإن للتمكين نشوة قد تسكر، ولكن الذي يريده لله لا يسكره بعض التمكين ولا كله. إن نفوس المستضعفين التواقة إلى الحرية والتمكين قد تستعجل القطاف، فتحرمه أو تحرم بعضه، ولكن هذه الشهوة لا تغلب من يرى في التمكين نعمة توجب مزيدًا من الانكسار لواهبها وفي التحرر من قهر الرجال فضلا يوجب مزيدًا من تحقيق العبودية لمسديه.
وهناك معنى آخر مهم وهو أن الإسلام أمرنا أن نتعامل مع السنن الكونية ولم يحرمنا من الحيل اللائحة لتحقيق الغايات الصالحة، فقد نترك عملاً صالحا لدفع مفسدة تربو على مصلحته، فالشريعة كما قال ابن تيمية – رحمه الله: «جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وعلى هذا تعطل أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ويرتكب أخف الشرين والضررين لتفويت أقصاهما.» [مجموع الفتاوى 28/129] بل وفوق ذلك، فقد يسوغ فعل المحظور لمصلحة راجحة، وقد أذن رسول الله لمحمد بن مسلمة – رضي الله عنه – أن يذكره بسوء وينال منه في حادثة قتل كعب بن الأشرف، (متفق عليه) مع أن النيل منه – صلى الله عليه وسلم – كفر. وفي ذلك يقول الشاطبي – رحمه الله: «وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة.» [الموافقات 3/ 331 تحقيق دراز، دار المعرفة]
إن أكثر الدعاة والعاملين للإسلام لا يغيب عنهم ما سبق ذكره، ولكن الذي قد يحرمه كثيرون هو السداد في إدراك درجة التمكين في الواقع المعين، كما في الحالة المصرية الراهنة. وليس الأمر يقتصر على الداخل، فإن حسن إدراك كثيرين للحسابات الداخلية متصور، ولكنه لا يكفي في عالم شديد التشابك إلى حد يجعل التعويل على الداخل فقط مع إهمال كامل للخارج من سوء التقدير البين. إن الذين كره الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يتحدثوا أنه يقتل أصحابه لم يكونوا إلا ذاك الرأي العام الخارجي بمصطلح اليوم.
إن المطلوب الآن من كل من يتصدر لأمر العامة من الشيوخ المتبوعين، سيما من يظهر في وسائل الإعلام ويتناقل الناس مقولاته، هو تحصيل آلة الخوض في هذه الغمار، وذلك بالوقوف على دقائق الواقع السياسي وإدراك الآثار المترتبة على مختلف أنواع الخطاب الإعلامي. إن حديث البعض من قبل في الفضائيات ليس كحديث اليوم، فإن حديث اليوم ترصده آلاف الأعين في الداخل والخارج.
إن أحدًا لا يتعجب من سؤال الفقيه للطبيب عن مسألة طبية ليبرم حكمًا شرعيًا بخصوصها. والقائلون بتغير حكم العين النجسة بالاستحالة لا يكفيهم هذا التقرير للحكم على أعيان محددة حتى يخبرهم المختص بوقوع الاستحالة من عدمه. أليست أمور السياسة والخطاب الإعلامي مما يحتاج في إدراكه إلى المختصين وأهل الخبرة، لتحقيق مناطات الأحكام الشرعية في واقع شديد التعقيد. إن هؤلاء الخبراء سيوقفون الدعاة مثلا على أنواع الخطاب الذي يزعج الآخر، ويزيدونهم تفصيلاً ببيان درجة الانزعاج، وما قد يؤدي إليه ذلك من سعي ذاك الآخر إلى إحداث الضرر بالمسيرة أو إجهاضها. وسيبينون لهم أبعاد الضرر وحدود القدرة على احتماله. إنه سيكون للعلماء بعد ذلك أن يوازنوا بين المصلحة المرجوة من الدفع بخطاب معين والمفسدة المتوقعة منه، ولكن سيكون الأمر لهم بعد إحاطتهم بكل جوانب الصورة.
إن هذا الذي ذكرت لا يلزم فقط من يسعى لأن يكون مباشرًا للعمل السياسي المحض أو يكون داخل تشكيلات الحكومات المقبلة، بل عموم من يتصدر للحديث في أمر العامة، فإن كل هذه التوجهات على أرض الواقع مرصودة من الآخر الذي قد يسعى إلى منع طوائف بعينها من تحقيق غاياتها، فإن رأى أن ذلك متعذر، فقد يسعى إلى إجهاض التجربة من أصلها.
إنني لا أظن أنه سيعجز الدعاة أن يجدوا من الخبراء في هذه الفنون من يوقفهم على تفاصيلها، فكثير من أهل السياسة والإعلام سيكونون حريصين على التعاون، في ظل الأجواء الراهنة، والتي يسعى فيها المخلصون من أبناء الوطن لحماية المكتسبات التي حققتها الثورة وترشيد المسيرة. ولكن الأمر يحتاج إلى صبر وتواضع ممن طال جلوسه لتعليم الناس إذ يجلس في الجهة المقابلة. إنني على يقين أن أكثر الدعاة لن يستنكفوا عن مثل هذا المقام، وأرجو أنه متى رأى الساسة من تواضعهم ما أعرفه، فإن جسر المنافع سيكون ذا اتجاهين، وبمرور الوقت ستكون حاراته المتجهة من العلماء إلى الخبراء أكثر وأرحب وأعظم منفعة. لعل البداية تكون بتنظيم دورات عن موضوعات السياسة والإعلام التي يحتاج الدعاة إلى التعرف عليها، وأرجو أن يكون معهد الوسطية من السباقين إلى ذلك الخير.
إن فتح أبواب الإعلام على مصاريعها للدعاة غير المتقنين للكلام في شؤون السياسة أمام عموم الناس قد يكون من الاستدراج. إن هناك فرقًا بين الحديث إلى المريدين والحديث إلى المراقبين بله الشانئين. أرجو ألا ننفق من أرصدة غير معلومة، وأن يكون عندنا من القدرة على الصمت بقدر ما عندنا من القدرة على الكلام، ولكل وقته، فإن ترددنا في تمييز الأوقات، فالصمت أولى بنا وأسلم لنا.
وأخيرًا إلى من يقول من العاملين للإسلام أن ذاك الآخر سيسعى في كل الأحوال إلى إجهاض المسيرة، أقول إن السعي يتفاوت. وإلى من يقول، بل ندع ذلك كله ونقول “حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ” أقول، بقولك يا حبيب أقول، ولكن أدعو إلى أن نضيف إلى برد اليقين بنصره حر السعي في الأخذ بالأسباب تأسيًا بسيد المتوكلين الذي أخذ بكل سبب يخذل عن المؤمنين ويعمي عنهم ويقوي شوكتهم حتى تستوي على سوقها الأشطاء. فاللهم صل عليه في الأولين والآخرين.