السلام عليكم اخواني الفضلاء في مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ارسلنا الى حضراتكم استفتاءا بخصوص الصلاة خلف الماسح على الجوارب القماش ،وطلبنا ارسال الإجابة بتوقيع من السادة الفضلاة المفتين أكثر من مفتي ، لكن جاءت الإجابة مبسطة كبقية الفتاوى : علما بأن هذا السؤال رغم بساطته لكن له خصوصية هامة في مجتمعنا وهو سيكون الحل الفاصل بين معضلة نواجهها، والجميع موافقون أنه لو جائت الفتوى من مجموعة مفتين يتوزعون على المذاهب الأربعة كان مقبولة ان شاء الله ، ونطلب من حضراتكم ارسال السؤال والجواب باللغة الإنجليزية لأنه يهم من يتكلمون بها اكثر من العرب فمن فضلكم اجيبونا بتفصيل في حكم المسح على الجورب والصلاة خلف من يمسح عليهما وجزاكم الله خيرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلعل جواب هذا السؤال لا يتم حتى نبين الفرق بين الخلاف الشاذ وذلك السائغ، ضعيفًا كان أو قويًا، ثم نبين وجه القائلين بجواز المسح على الجوربين، ونختم ببيان مسلك أهل
العلم في التعامل مع تلك المسائل الخلافية، سيما ما كان الخلاف فيها قد يؤدي إلى شر مستطير، كترك المسلمين الصلاة خلف بعضهم بحجة عدم سلامة وضوئهم أو صحة صلاتهم.
أولا: الخلاف الشاذ والخلاف السائغ
لا شك أن من الخلاف ما هو شاذ منقرض لا يقر عليه من يتمسك به اليوم، وذلك كإباحة ربا الفضل ونكاح المتعة وأنواع من النبيذ. وإنما قال به بعض السلف لعدم العلم بالدليل أو لتأول بعيد، ثم إن الأمة قد اتفقت على تجاوزه.
ومن الخلاف ما يسوغ لأن لأصحابه من الفقهاء معتمدًا من دليل نقلي أو نظر عقلي. وهذا النوع يتفاوت قوة وضعفًا. فمنه الضعيف، وله أمثلة في كل المذاهب نعرض عن ذكرها هنا، ومنه القوي كتعريف القرء وميراث الجد مع الإخوة والجهر بالبسملة في الصلاة…الخ.
وحتى يكون الخلاف سائغًا، فإنه يلزم له توافر شروط وامتناع موانع، فلا يسوغ الخلاف مثلا في أصول الإيمان وحجية السنة لأنها من المسائل التي ينتقض أصل الدين بالاختلاف عليها، ولا بد له من أن يكون القائل به ممن عرف بالعلم والديانة، وإلا فليس لكل أحد أن يقول في دين الله من عند نفسه، ومن غير تأهل، ولا يسوغ ذلك في أي دين أو علم من العلوم، ولا بد لقائله من توجيه قوله بدليل نقلي أو تعليل عقلي. وأخيرًا فمتى انعقد الإجماع الصحيح المتيقن، لم يجز لأحد خرقه، ولكن لا بد من التنبيه هنا على أن نقل الإجماع لا يعني حصوله حتى يتيقن ولا يظهر انتقاضه.
ثانيًا: وجه من قال بجواز المسح على الجوربين
الجوارب كما في كشاف القناع 1/111: “اسم لكل ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد.”
والقائلون بجواز المسح على الجوربين خلق كثير من أهل العلم، وقد قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله – في المغني 1/181: “قال أحمد : يذكر المسح على الجوربين عن سبعة ، أو ثمانية ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن المنذر : ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله r; علي ، وعمار ، وابن مسعود ، وأنس ، وابن عمر ، والبراء ، وبلال ، وابن أبي أوفى ، وسهل بن سعد ، وبه قال عطاء ، والحسن وسعيد بن المسيب ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، والأعمش ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وابن المبارك ، وإسحاق ، ويعقوب ، ومحمد .”
و قال الإمام النووي – رحمه الله – في المجموع 1/499: “وحكى ابن المنذر إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة علي وابن مسعود وابن عمر وأنس وعمار بن ياسر وبلال والبراء وأبي أمامة وسهل بن سعد”
بل إن الإمام أبا حنيفة – رحمه الله – قد رجع إلى قول صاحبيه فجوز المسح على الجوارب قبل موته، بل مسح هو عليهما، ففي المبسوط 1/102: “…وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
يجوز المسح عليهما وحكي أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مرضه مسح على جوربيه ثم قال لعواده فعلت ما كنت أمنع الناس عنه فاستدلوا به على رجوعه.”
بل إن العلامة ابن الهمام – رحمه الله –، كبير المحققين من متأخري الأحناف ذكر في فتح القدير 1/157 أن الفتوى على جواز المسح على الجوربين، فقال: “( ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي
حنيفة رحمه الله إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين، وقالا: يجوز إذا كانا ثخينين لا يشفان)… وعنه أنه رجع إلى قولهما وعليه الفتوى.”
ودليل من جوز المسح على الجوربين غير المنعلين هو:
عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه –: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تـوضأ ومسـح عـلى الجوربين والنعلين. رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح؛ وأبو داود وسكت عنه فهو عنده صالح؛ وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وابن خزيمة وابن أبي شيبة؛ وصححه كذلك ابن حزم والألباني. وقد ضعفه غيرهم، ويشهد له ما يأتي من الأحاديث وثبوت المسح عن جماعة من الصحابة.
والحديث يدل على جواز المسح على الجوربين وإن لم يكن نعلان، قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله –: “وهذا يدل على أن النعلين لم يكونا عليهما ; لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر النعلين ، فإنه لا يقال : مسحت على الخف ونعله ; ولأن الصحابة رضي الله عنهم ، مسحوا على الجوارب ، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم.”
وعن ثوبان – رضي الله عنه –: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي r شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. رواه أحمد وأبو داود والحاكم .
وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن رسول – صلى الله عليه وسلم – توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. رواه ابن ماجه.
وفي مصنف ابن أبي شيبة باب عقده – صلى الله عليه وسلم – للمسح على الجوربين، وفيه: أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين. وعقبة بن عمرو مسح على جوربين من شعر. وعن إبراهيم قال الجوربان والنعلان بمنزلة الخفين. وعن قتادة أن أنسا كان يمسح على الجوربين. وعن أبي غالب قال رأيت أبا أمامة يمسح على الجوربين. وعن الضحاك أنه كان يقول في المسح على الجوربين لا بأس به. وعن إسماعيل بن أمية قال بلغني أن البراء بن عازب كان لا يرى بأسا بالمسح على الجوربين، وبلغني عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب أنهما كانا لا يريان بأسا بالمسح على الجوربين. وعن عمرو بن كريب أن عليا توضأ ومسح على الجوربين. وعن أبي حازم عن سهل بن سعد أنه مسح على الجوربين .
وفي المصنف أيضًا باب “من قال الجوربان بمنزلة الخفين” ونقل فيه القول بذلك عن: عطاء قال: المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفين. وعن عباد بن راشد قال: سألت نافعا عن المسح على الجوربين فقال هما بمنزلة الخفين. وعن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول المسح على الجوربين كالمسح على الخفين. وأثر ابن عمر حسنه الألباني في المسح على الجوربين ص 54.
ولذلك فقد نقل إجماع الصحابة على جواز المسح على الجوارب غير واحد، فقال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في تهذيب سنن أبي داود 1/187-189 بعد عده ثلاثة عشر صحابياً ممن جوزوا المسح على الجوارب:”… ولا نعرف في الصحابة مخالفاً لمن سمينا”
وقال الإمام ابن قدامة – رحمه الله – في المغني 1/181: ” …ولأن الصحابة رضي الله عنهم ، مسحوا على الجوارب ، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم ، فكان إجماعا…”
ولهم من القياس نفي الفارق بين الجلد والصوف والقطن وغيرها، وأول من نقل عنه صريح التنيه إلى هذا المعنى أنس بن مالك t فقد روى الدولابي في الكنى والأسماء عن الأزرق بن قيس قال: “رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت : أتمسح عليهما فقال: إنهما خفان ولكن من صوف” وصحح الحديث العلامة أحمد شاكر كما في مقدمة رسالة المسح على الجوربين ص13.
وقال الإمام ابن قدامة – رحمه الله – في المغني 1/181: “ولأنه ساتر لمحل الفرض ، يثبت في القدم ، فجاز المسح عليه ، كالنعل.”
وفي ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مجموع الفتاوى 21/214: “… فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ومحظوره ومباحه وغايته أن الجلد أبقى من الصوف فهذا لا تأثير له كما لا تأثير لكون الجلد قوياً بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى. وأيضاً فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء . ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله. ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه: فقد ذكر فرقاً طردياً عديم التأثير ).
أما من فرق بين الجوارب والخفاف، فقالوا بعدم الحاجة إلى الجوارب، قال العلامة الكاساني – رحمه الله – في بدائع الصنائع 1/10: “…لى أن شرع المسح إن ثبت للترفيه ، لكن الحاجة إلى الترفيه ، فيما يغلب لبسه ، ولبس الجوارب مما لا يغلب ، فلا حاجة فيها إلى الترفيه.”
والجواب هو أن حوائج الناس تختلف ولا نسلم بعدم الحاجة إلى المسح على الجوارب، سيما في زماننا هذا حيث يعمل الناس جل نهارهم خارج بيوتهم، وقد علم القاصي والداني أن نزع جواربهم
للوضوء من أكبر العوائق المانعة للكثيرين من الصلاة في وقتها، بل لا يبالغ من قال عن الصلاة جملة.
وقيل لا تستمسك الجوارب على الساق، فإن سلمنا لاشتراط ذلك، وفيه خلاف في مذهب أحمد، فقد يقال أن من الجوارب ما يستمسك على الساق، قال العلامة ابن الهمام – رحمه الله –، كبير المحققين من متأخري الأحناف، في فتح القدير 1/157: “…وقالا [أي الصاحبان]: يجوز إذا كانا ثخينين لا يشفان لما روي أن النبي r مسح على جوربيه، ولأنه يمكنه المشي فيه إذا كان ثخينا ، وهو أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء فأشبه الخف.”
وقيل لا تمنع الجوارب وصول الماء إليها، والجواب أن هذا وصف طردي لا يؤئر في الحكم. وإذ ثبت المسح عن الصحابة فلا يعارض بمثل هذا.
أما اشتراط الجورب الصفيق دون الرقيق، فهذا أيضًا وصف طردي، فالعبرة بحاجة الناس إلى لبس هذه الجوارب، ولو لم تكن لهم حاجة ما لبسوها. وهم أيضًا يعرفون الصفيق بتعاريف مختلفة،
ففي المبسوط 1/102: “والثخين من الجورب أن يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء.” وهذا هو حال جوارب اليوم، وإن كان المقصود بالصفيق ألا يبدو منه شيء من القدم كما في المغني 1/181، فهذا حال أكثر الجوارب، وإن لم نسلم للقيد، فما كانت خفاف الصحابة أو كثير منهم إلا مخرقة تبدو منها بعض أقدامهم.
وفي رد كل هذه التقييدات التي لم يأت عليها دليل، يقول الإمام أبو محمد علي بن حزم – رحمه الله – في المحلى 1/336: “قد صح عن رسول الله r الأمر بالمسح على الخفين، وأنه مسح على الجوربين
، ولو كان ههنا حد محدود لما أهمله عليه السلام ولا أغفله فوجب أن كل ما يقع عليه اسم خف أو جورب أو لبس على الرجلين فالمسح عليه جائز.”
إن الناس في هذه الأزمنة المتأخرة التي اغترب فيها الدين وضعف اليقين واشتد البلاء على كثير من المسلمين، تعظم حاجتهم إلى التيسير المنضبط القائم على الدليل، والتيسير في غير
إثم هو منهجه – صلى الله عليه وسلم – فهو القائل: “يسرا ولا تعسرا”
وختامًا لهذه الفقرة، فإن القول بجواز المسح على الجوارب هو من مسائل الفروع، وليس أقل من أن يعتبر سائغًا عند من لا يراه الصواب، وقد قال به من ذكر من أهل العلم ولهم عليه أدلة من المنقول والمعقول، ولم يخرقوا به إجماعًا معتبرًا.
ثالثًا: طريقة الأئمة الأعلام في التعامل مع الخلاف
إن الأئمة الأعلام من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم اتسعت صدورهم للخلاف بينهم، وكلما علا في العلم كعبهم كلما زاد للمخالف عذرهم. وفي ذلك ينقل ابن عبد البر – رحمه الله – في جامع بيان العلم 2/80 عن يحيى بن سعيد الأنصاري قوله: “ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه” وينقل ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/186 عن أحمد قوله: “لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.” ويعقب فيقول: “لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع.”
وقد جاء مثل هذا عن جم غفير من أهل العلم.
أما ترك الصلاة وراء أهل القبلة بحجة عدم صحة وضوئهم أو صلاتهم على مذهب المخالف، فلا يعلم باب هو شر من ذلك على المسلمين، وإنه إن فتح فسيأتي على ما بقي من وحدتهم ويشيع
الفرقة بل البغض والتدابر بينهم.
ولما كان خلاف الأئمة في مسائل الوضوء والصلاة كثيرًا، فقد حرصوا على بيان أن شيئًا من ذلك لا ينبغي أن يؤدي إلى الفرقة وترك الائتمام بأهل القبلة. ففي مجموع الفتاوى 20/364 أنه قيل لأحمد – رحمه الله –: إن كان الإمام خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلي خلفه؟ قال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب.
وفي طبقات الحنفية 1/433 أن الشافعي صلى الصبح في مسجد أبي حنيفة فلم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة – رحمهما الله.
وقال القرطبي – رحمه الله – في تفسيره 23/375: “كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سراً ولا جهراً وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد”. هذا مع عدم تصحيحهم صلاة من ترك البسملة ونقضهم للوضوء بالاحتجام.
ولعل فيما سبق من كلام السادة الألى ما يكفي أصحاب النهى، والله المسؤول أن يجمع هذه الأمة على كلمة سواء حتى تستحق وعده لها بالنصر والتمكين.