كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
بعد كلامنا عن أهداف وأنواع ومستويات الحوار في المقال السابق، فلنعرض الآن إلى بعض المنطلقات المهمة لحوار الإسلاميين مع الآخر، وعلى الأخص، الغرب. ولعلي أبدأ هنا ببيان أنني مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1991، وإن كانت صلتي بمصر لم تنقطع، فأهلي بها، وأولادي يدرسون بمدارسها، وأنا دائم المتابعة لأخبارها، وكثير التردد عليها.
وحبب ﺃﻭﻁﺎﻥ الرجال إليهم – مآرب ﻗﻀﺎﻫﺎ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ ﻫﻨﺎﻟﻜﺎ
ﺇﺫﺍ ذكروا أوطانهم ذكرتهم – ﻋﻬﻭﺩ ﺍﻟﺼﺒﺎ ﻓﻴﻬﺎ فحنوا لذﻟﻜﺎ
أردت البداءة بإطلاع القارئ على ذلك لأن الكاتب لا يستطيع أن يفصل بين أفكاره وتجاربه، مهما حرص على التجرد؛ وللقارئ أن يحاكم الأفكار مستصحبًا كذلك ما يقدر عليه من التجرد.
هذه جملة من المنطلقات التي أراها مهمة:
لا حرج في الحوار
بل هو واجب ديني، وضرورة سياسية، ومطلب حضاري، وإن كان الطرف الآخر من أهل الفكر أو الدين أو الإعلام أو السياسة. لقد أرادت الأنظمة الحاكمة لشعوبنا المسلمة، والتي لا تؤمن بمرجعية هذه الشعوب الأصيلة، أن يحتكروا الحوار مع الآخر، وكأن أمتنا بكماء، أو عاجزة عن البيان، فتحتاج إلى فصاحتهم وقوة عارضتهم. فإن كان ولا بد أن يتكلم غيرها، فليكن أي أحد سوى أبناء التيار الإسلامي. فمتى دار حوار بين أحدهم والآخر الأجنبي، بل والمواطن غير المسلم، فزعت تلك الأنظمة، فإذا كان مع الأجنبي، رفع الجميع عقيرتهم بالهُجر من القول، ورفعوا أصابعهم مشيرين إلى هؤلاء الإسلاميين بالخيانة والعمالة. وما أصدق قول شوقي في مثل ذلك: أحرام على بلابـله الدوح — حلال للطير من كل جنس؟
لقد بقي الغرب يسمع عن الإسلاميين لا منهم، حتى صار به جاليات مسلمة كبيرة، فبدأت ألوان من الحوار مع الإسلاميين منهم، فوجدهم القوم أرجح عقولاً وأحسن منطقًا من كثير ممن يزعم أنهم سيبيدون خضراء العالم إن تمكنوا.
من نحاور؟
إنه لا بد من توسيع دائرة التواصل مع الآخر، وهذا إنما يكون بعدم قصر الحوار على كبار الساسة والزعماء، بل ينبغي أن يشمل أهل السياسة والفكر والدين والتعليم والإعلام والمجتمع المدني. إن الشعوب الحرة لا يسوقها الزعماء سوقًا، بل يسبحون في ماء يدفق من معين وعيها الجمعي ويجري في قنوات تحدد مساراتها تفاعلات اقتصادية واجتماعية وفكرية شتى. إننا ينبغي أن نفكر على المدى البعيد، ونخطط، كما يخططون، لإعادة صياغة ما يخصنا من وعيهم الجمعي وذاكرتهم الجمعية.
هل نحاور البشر أم عقولهم
لا شك أن حوارنا مع الآخر لا بد أن يكون عقلانيًا، وأن نعد له العدة بالدراسة الجيدة لمحاوره، وتحديد أهدافنا منه…إلخ. ولكن هل يكفينا ظهور حجتنا العقلية؟ هل البشر عقول بلا عواطف وأحاسيس؟ وهل العقلاء منهم، بله الآخرين، لا يتأثرون بتلك العواطف؟ ألم يكن رسول الله يطعم الطعام، بل يأمر بذلك لتألف الآخر؟
إن شيئًا من الحديث عن الصحة والأولاد، بل والطقس، يزيل الجليد بين المتحاورين ويمهد الطريق أمام الحجج العقلية بإزالة السدود والموانع النفسية. إن مجرد اشتراكك مع الآخر في حب نوع من الطعام أو ممارسة رياضة ما، أو حتى الإصابة بمرض من الأمراض، كالسكري مثلاً، إلخ لهو فرصة للتواصل والتراحم، فإنه يذكركما بإنسانيتكما واشتراككما فيما يعرض للإنسان مما يحب ويكره.
إن الفرق بين حوارنا مع أعضاء الكونجرس الأمريكي مثلاً وغيرهم من ساسة الغرب وحوار الإسرائليين معهم أن الحوار الثاني إنما يكون بين أصدقاء، بينما يكون حوارهم معنا حوارًا مع الآخر البعيد. ودعوني أسجل هنا أننا لا نقدر على مجاراة الإسرائيليين في كل ما يفعلون، فثمة حدود ننتهي إليها في التواصل الاجتماعي، ولكن أليس ما لا يدرك كله لا يترك جله، بل ولا بعضه؟ ثم إن كثيرًا من الغربيين سيتقبل حدودنا، متى عرفها بوضوح وعرف الدافع إليها.
إن تلك الحدود لا تمنعنا من الكرم والإحسان والمجاملة والملاطفة، بل إن هذه الخصال، قبل أن تكون آليات لكسب الآخر، هي من مبادئنا وقناعاتنا الدينية. قال تعالى: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا”، عن عطاء بن أبي رباح: للناس كلهم. وقال ابن عباس – رضي الله عنه -: “لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك”. [صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد – رقم: 848.]
حوار لا استجداء
الوسطية في الحوار مع الغرب تقتضي أن نسعى إلى تألف من نحاورهم، ولكن من غير انبطاح، ومع إدراك لعوامل قوتنا، لا يغيبه عن وعينا ما نعانيه من مظاهر ضعفنا وتخلفنا.
إن الله قد حبانا بموقع في وسط العالم، وموارد طبيعية ضخمة، وثروة بشرية عظيمة، فمصر يربو سكانها على الثمانين مليونًا، والعالم الإسلامي يقارب مليارًا ونصف المليار، معظمهم من الشباب. وهذه قوة، وإن زعمت الحكومات الفاشلة التي عجزت عن حسن توظيفها أننا عبء عليها. ونحن كذلك أمة لها ماض عريق وهوية أبية على التفتيت. وقبل ذلك كله، وأهم منه، أننا إن ألزمنا أنفسنا بألا يرانا الله أو أحد من خلقه في غير جانب الحق، فإن قوة الحق سترجح وإن بعد حين، ولذلك قال تعالى مخاطبًا الجماعة المؤمنة الأولى (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139).
إنه من المهم أيضًا أن يكون مقصودنا من الحوار هو مصلحة الأمة لا أشخاصنا أو فصائلنا. إن الذي يسعى لهذه الأغراض الدنية يسقط من عين محاوره، وإن أظهر به الاحتفاء. إننا نربأ بالإسلاميين وكذلك الشرفاء من أبناء الوطن عن السقوط في هذه الحفر.
معرفة الأسباب: الجهل وسوء الفهم والتحيزات الثقافية من جانبهم وأيضًا سوء السلوك من جانبنا
إن الجهل وسوء الفهم والتحيزات الثقافية هي من أسباب ما عند الغرب من صورة مشوهة عن الإسلام وأهله، ومثال الأول هو من ظن من عوام الغربيين أن المسلمين يعبدون القمر مثلا! وعلاج هذا النوع يسير، وهو كفاية البلاغ، وعلاج الثاني أعسر، لأنه يحتاج إلى إفهام وتواصل مع من يسيئون فهم قضية من قضايا الإسلام، وإن كانت معرفتهم بظاهرها صحيحة، ومثال هذا القسم بعض الحدود التي لا يفهم منتقدوها دواعيها وشروط تطبيقها وآثارها على المجتمع.
أما التحيزات الثقافية، فلا نستطيع أن نعالجها، بل نذكرهم بأن جعلهم ثقافتهم وحدة القياس التي يحاكمون إليها ثقافات الأمم الأخرى هو من الكبر والتحكم اللذين لا يليقان بالعقلاء.
ولكن بقي أن انحرافنا وسوء سلوكنا نحن المسلمين يسبب قسطًا كبيرًا من تشوه صورتنا عند الغربيين. خذ كمثال غياب الحكم الرشيد في بلادنا والإدارة الرشيدة في مؤسساتنا. كيف نطالبهم بتفهم ذلك وبتفهم الخطاب الإسلامي السياسي المحرف الذي يدعو إليه بعضنا، والذي يمكن للطغاة ويؤطر للطغيان، وهم ينعمون بقدر من الحرية والعدالة لا تعرفه أكثر بلاد المسلمين؟ لعل من أهم سبل إنجاح الحوار مع غيرنا من الأمم أن نحدث النهضة في مجتمعاتنا حتى نلزم تلك الأمم باحترام مقالنا.
التفريق بين الاعتقاد والتطبيق وبين ما يعتقد وما يقال
كشفت تسريبات ويكيليكس بشأن مراسلات الدبلوماسيين الأمريكيين بعضًا مما أشرنا إليه من أنه ليس كل ما يعتقد يقال، وأن هذا ليس في كل حال داخلاً تحت معاني النفاق أو الخيانة أو الجبن، بل يكون أحيانًا مقتضى الحكمة التي يشترك فيها البشر على اختلاف خلفياتهم. إن حديث دبلوماسي أمريكي لرؤسائه عن عربدة رئيس الوزراء الإيطالي هو من باب إطلاعهم على ما يحتاجون إلى الوقوف عليه لأنه قد يؤثر على سياساتهم، ولكن تصريحه بذلك على العلن قد يؤدي إلى الإضرار بمصالح بلده، فالحكمة تقتضي خلافه.
تحدثنا عَائِشَةَ – رضي الله عنها -“أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رَآهُ قال بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابن الْعَشِيرَةِ فلما جَلَسَ تَطَلَّقَ النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إليه فلما انْطَلَقَ الرَّجُلُ قالت له عَائِشَةُ يا رَسُولَ اللَّهِ حين رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ له كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ في وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إليه فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ الناس عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يوم الْقِيَامَةِ من تَرَكَهُ الناس اتِّقَاءَ شَرِّهِ.” [البخاري]
ونحن نتعلم من هذا الحديث درسًا مهمًا في الدبلوماسية النبوية الراقية، فتجميل وتلطيف الخطاب بقدر الإمكان مهم حتى مع الأشرار المخاصمين. وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله)) [البخاري]
إذًا فالتصريح بما يعتقده المرء يتوقف على عدة عوامل منها مناسبة المقام واحتمال استيعاب المخاطب والموازنة بين المصالح والمفاسد.
الإنصاف والتفريق بين الفئات المختلفة بالغرب
إن الغرب ليس شيئًا واحدًا، وليس يستوي المحاد المعاند والمتودد المساند، وبين هؤلاء وأولئك طوائف من المحايدين وآخرون مضللون يحتاجون إلى بيان الحق لهم والتواصل معهم لإزالة ما عندهم من جهل أو شبهة. إن معاملة رسول الله لخزاعة لم تكن كمعاملته لبني بكر، ولم تكن معاملته لعمه أبي طالب كمعاملته لعمه أبي لهب.
إن نقدنا المستمر لكل ما هو غربي وعدم إقرارنا بأي من فضائل القوم سيؤدي بهم إلى أن يصموا آذانهم عن كل ما نقول. أحيانًا أسائل نفسي، ماذا لو استطلعنا رأي جماعة منا عن أسباب التفوق الغربي؟ لا شك أن منا منصفين، ولكن الأجوبة ربما أتى أكثرها خاليًا من ذكر الفضائل التي قضت سنة الله الكونية أنها تؤدي إلى السبق في الدنيا والظهور. إن هذا السؤال أجاب عنه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – بما يعكس حكمة هذا الجيل الأعظم والأحكم، فإنه لما حدثه المسْتَوْرِد القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ الناس،” قال له عَمْرٌو: “لَئِنْ قُلْتَ ذلك إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ الناس عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ من ظُلْمِ الْمُلُوكِ.” [صحيح مسلم]
لقد وعى – رضي الله عنه – “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا” [المائدة: 8]
إن إدمان النظر في فضائل النفس ورذائل الآخرين سبيل محتم إلى السقوط والتخلف. والعاقل من عكس في أكثر أحواله.
تقديم تنازلات عند الحاجة والسماع مع الإسماع
يأخذ بعض الغربيين علينا أننا لا نحسن تقديم التنازلات في الوقت المناسب لدفع الحوار قدمًا وتجاوز عقباته، وذلك لفض النزاعات وإحلال السلام. إن هذا ربما لا يصدق على أكثر حكامنا، فهم إلى التنازل سراع خفاف. ولكن لمن لا يدرك أهمية التنازل منا، فلست في الحقيقة أجد خيرًا من صلح الحديبية لأدعوهم إلى طول تأمل فيه.
لقد صالح صلاح الدين الصليبين مرات ومرات، وفقهاؤنا يقررون أن الصلح على شرط جائر يجوز لنا، إن كانت فيه مصلحة الأمة، وهذه طبعًا غير مصلحة شخص أو حزب أو فصيل.
ولكن كيف نضمن كون الصلح لمصلحة الأمة؟ يكون ذلك بعدم السماح لأحد بأن يستأثر دون الأمة بتقرير ما يتنازل عنه وما لا يتنازل عنه، بل هذا حق للأمة تمارسه عبر ممثليها.
إن الحوار عملية تفاعلية بين طرفين، ومن يأتي إليها بلسان قؤول وأذنين صماوين فلن يجد من الطرف الآخر إلا إعراضًا وصممًا، وعندها يبدأ ما يسمى بحوار الطرشان.
الحاجة إلى تحرير خطابات جماعية موحدة – الحوار الإسلامي الإسلامي
أعني بالخطاب الموحد، ألا يكون لنفس الداعي خطابات متناقضة، بعضها لمريديه وبعضها للعامة وبعضها للعالم الخارجي…إلخ.
إنه في نفس الوقت الذي أظهرت فيه تسريبات ويكيليكس أن الناس كلهم لا يقولون كل ما يعتقدون، فإنها بينت أن المساحة بين ما يتهامس به الدبلوماسيون الأمريكيون وما يصرحون به ليست بذلك البعد، ولعل هذا لأن القوم حرروا خطابًا ينطلقون منه لخدمة كل مصالحهم من غير أن يكون معيبًا من الآخرين، على الأقل في منطوقه، وبذلك فإنهم لا يخشون من أن يكون أسود رئيسًا لهم أو مسلم سفيرهم في دولة مسلمة غزوها واحتلوها.
إننا نعرف أن خطابهم في الكنائس، أو بعضها، غير هذا الخطاب الدبلوماسي، وكذلك فنحن لا ندعو إلى استنساخ أي من خطاباتهم، ولكن ندعو إلى إدراك حقيقة مهمة، وهي أن العالم صار كحجرة صغيرة، فلم يعد خطاب المشايخ لطلبتهم قاصرًا على هؤلاء، فإنه متى سجل، وما أسهل أن يسجل بعلم المتحدث وبغير علمه، فإنه يصير خطابًا إلى الدنيا. هذا لا يعني التفريط في تعليم شبابنا ما يحتاجونه ولا التفريط في ثوابتنا، ولكن مجرد استحضار الداعي كون خطابه إنما هو خطاب للعالم سيحمله على ضبط العبارة وعدم التجاوز فيها، وليس جنى النحل وقيء الزنابير إلا شيئًا واحدًا!
إن هناك كثيرًا من علل تشريع تعدد الأزواج، وإن معرفة ثقافة المخاطبين، بل الأعراف المعاصرة عمومًا سيكون مهمًا لحسن عرضها وترتيبها.
ولقد قلت “خطابات” ولم أقل “خطاب” لتعذر توحيد خطاب المسلمين، بل الإسلاميين، فما زال الناس يختلفون. لكن اجتماع طوائف من المتقاربين فكريًا في مؤتمرات أو لقاءات لتحرير خطاب جامع لهم سيكون له أثر طيب على دقة الخطاب واعتداله، وسيقلل من النزوع إلى التطرف في أي اتجاه، ويقلل من حالة تعدد الخطابات بتعدد الدعاة، فكما لعبت المذاهب دورًا في التأكيد على تعددية الفقه والفكر، فإنها أسهمت في حمايتهما من تعددية بلا زمام ولا خطام. وما كان نهر النيل ليصل إلى غايته بشمال مصر لو كان له ألف فرع.
إن بعض الإسلاميين عند حديثه عن العلاقة مع الآخر يستحضر في ذهنه فيكتور أريغوني المتضامن الإيطالي مع القضية الفلسطينية أو راتشيل كوري المتضامنة الأمريكية والتي قضت تحت دبابة إسرائيلية، والبعض يستحضر صورة شارون أو كاهانا.
أنا لا أشك أن هناك ثوابت أتى بها الوحي لا تؤثر (أو ينبغي ألا تؤثر) عليها التجارب الشخصية، ولكن هناك مساحة مما يخضع للتأويل ومما يتأثر بالحالة النفسية للناظر. إن التئام مجموعات من الناس في أمثال هذه المؤتمرات سيؤدي إلى موازنة الرؤى المختلفة المتأثرة بتجارب ونفسيات متباينة.
عدم الإقصاء فيما بيننا
إننا ومع دعوتنا جميع المسلمين، إلى مراجعة خطابهم وتحريره، حتى لا يستعدوا من لا ضرورة في استعدائه، فإن المقصود هو توسيع دائرة الوسط ذي الخطاب المعتدل، وليس المقصود استئصال أصحاب الخطاب “المتشدد” وذلك لأن معتدل البعض هو متشدد الآخرين، ولا ينبغي أن نمارس الإقصاء فيما بيننا، إلا ما يكون من أخذ على يد ظالم لمنعه من ظلمه، فالظلم قبيح من كل أحد، والعدل حق لكل أحد.
ولتكن للمنادين باعتدال الخطاب تجاه الآخرين أسوة في تعامل هؤلاء الآخرين مع مواطنيهم، فإنه لا يخفى مثلاً أن كثيرًا من متطرفي اليمين في أمريكا لهم مقالات بشعة بحق الإسلام والمسلمين، كما لا يخفى ما يصدر عن الأحزاب الدينية اليهودية في إسرائيل من مقالات، بل وأعمال بحق العرب والمسلمين. إننا لا نجد غالبية العقلاء من أقوامهم يقصونهم، أو يهضمونهم حقوقهم، وإن خالفوهم، لكن يستوعبون تشددهم، بل وأحيانًا يستثمرونه.
إننا نعلم أن منا نحن المسلمين، من غير الشرفاء، من يؤثر حلفه مع الآخرين على سلامة الصف الداخلي للأمة، بل ويضحي بالخيار من أبناء الأمة من أجل سلامة هذه الأحلاف، كما فعل الصالح إسماعيل، إذ سجن سلطان العلماء، العز بن عبد السلام، ثم تزلف لملوك الصليبيين بذلك، فما كان منهم إلا أن قالوا: والله لو كان عندنا هذا القسيس لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها، فناله ما يستحقه من خزي في الدنيا قبل الآخرة، وعلى لسان من رجا ودهم. وفوق ذلك كله، فإن منا من يغري الخصوم بل الأعداء ببني ملته ويحرضهم عليهم. إن هذا لو وقع من الإسلاميين تجاه بعضهم، أو تجاه أي فصيل من عموم المسلمين، فسيكون الجرح أعظم، فإن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة – على النفس من وقع الحسام المهنّد.
كانت هذه جملة من المنطلقات العامة لحوار الإسلاميين مع الغرب، وفي المقال القادم إن شاء الله نعرض إلى صياغة خطاب إسلامي واضح، يراعي الأعراف العالمية من غير أن يفرط في الثوابت الإسلامية. وذلك بشأن ما يخيف الغرب من قضايا كالجهاد وحقوق الأقليات.
اللهم صل على محمد وآله وصحبه