ما زلت أذكر حرس الجامعة إذ يفتشون حقائب الطلبة عند مجاوزة أبواب الجامعة بحثًا عن منشورات. إن الأنظمة القمعية اعتقدت في تلك الأزمنة أنها تستطيع أن تحاصر الحقيقة وتعدمها! ولكن عصر الثورة المعلوماتية قضى بحول الله وفضله على تلك الاستراتيجيات والتكتيكات البائدة.
أما الآن، فهناك سيول من المعلومات المتدفقة من كل حدب وصوب، فالصحف بلا عدد، والقنوات الفضائية بلا عدد، وكذلك مواقع الشبكة – ولعل قولنا “بلا عدد” هنا لا يحوي أية مبالغة. فما الذي يمكن لأعداء الحقيقة أن يصنعوه؟ لا أظن هؤلاء سيسعون إلى محاصرة الحقيقة بمنع وصولها إلى عموم الناس، فهذه آليات أزمنة مضت كما قدمت، ولكنهم سيسعون إلى إزهاقها غرقًا بدل رميها بالرصاص؛ سيكاثرونها بسيول من الكذب والتلفيق والزور والبهتان، والأذكياء منهم والمتورعون عن التورط فيما سبق سيلجؤون إلى تدوير المعلومات والتشويش عليها بأنصاف الحقائق أو سيول الحقائق غير ذات الصلة المباشرة بالواقع المحتاج إلى تغيير.
إن الحدث الواحد قد يرى من عدة جهات، وإنك بتركيز الضوء على أحدها لا تكون كاذبًا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنك لا تكون صادقًا كذلك وقطعًا لا تكون أمينًا. لقد راقبت متابعة وسائل الإعلام الكبرى في الغرب لقضايا العرب والمسلمين كقضية فلسطين مثلاً، فوجدتهم في أكثر الأحيان لا يفترون الكذب، ولكن قد يظهرون صورة من مائة لمعاناة الفلسطينيين ويكررون صورة تفجير أحد محلات اليهود بتل أبيب مائة مرة، وقد يقدمون ويؤخرون في عرض الأخبار، وإذا قام الجيش الإسرائيلي باعتداء وحشي على منطقة سكنية، قدموا للخبر بذكر ما حصل قبل ذلك من جهة الفلسطينيين مما قد يسوغ عند كثير من الناس ما قام به جيش “الدفاع” الإسرائيلي! أما إذا كان الفعل من جانب الفلسطينيين، فهنا يذكر مقطوعًا من السياق. لقد صار معروفًا الآن أن الإعلام الذكي لا يحتاج إلى الكذب مهما كانت تحيزاته ومهما كان عدوانه على الحقيقة.
إن الناس الآن يسمعون الرأي والرأي الآخر وهذا مهم، ولكن كثرة سماعهم لذلك بما فيه من آراء مرسلة تلقى على عواهنها بلا زمام ولا خطام قد يؤدي بهم إلى الاعتقاد في نسبية كل شيء، وهذا خطر يجر إلى نوع من العبثية والعدمية يفتك بالمرجعية ويفكك الهوية ويضيع البوصلة لآحاد الناس ومجتمعاتهم. وأنا لست أطالب هنا بالحجر على الآراء المخالفة، ولكن أنبه إلى أن المساواة في عرض الآراء غير المتساوية هو من العدوان على الحقيقة. أرأيت لو كانت هناك مئات البحوث الرصينة التي تؤكد خطر الانبعاثات الحرارية على البيئة الإنسانية وكان هناك ثلاثة أو أربعة بحوث تنفي ذلك. إنك إن ساويت بين الرأيين في المساحة المتاحة لعرضهما لأعطيت الناس انطباعًا كاذبًا أن المسألة خلافية، ففريق يثبتها وآخر ينفيها!
ومن سلبيات التدفق غير المحدود للمعلومات أن الشائعات في زماننا هذا تنتشر بسرعة “الإنترنت” فربما أدت إحداها إلى زلازل سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية من غير أن يكون لها أصل، وذلك قبل أن يتبين الناس أنها لقيطة. والناس في أيامنا هذه لا يسمعون آراءً متضاربة فقط، ولكنهم يسمعون تحليلات متضاربة لنفس الأحداث، بل وأخبارًا متضاربة عن ذات الحدث. إن هذا أمر بالغ الخطورة لأنه لا يؤدي إلى الحيرة إزاء قبول أو رفض بعض الآراء أو التحليلات فقط، ولكنه أيضًا يؤدي إلى فقدان الثقة في كل المسموعات، وإنكار الحقائق الظاهرة ظهور الشمس في كبد السماء في رابعة نهار يوم صائف.
لقد بدأ الكثير منا نحن المصريين، والعرب والمسلمين عمومًا يعون أهمية بيوت الخبرة أو خلايا التفكير (Think Tanks) التي تعنى بدراسة وتحليل قضايا وظواهر معينة وتقديم المشورة بشأنها لطالبيها من الأفراد والشركات والجمعيات، بل والحكومات والدول. من أمثلة هذه بالغرب مؤسسة راند الأمريكية. إن هذا أمر حسن ومهم. أما دعوتي هنا فإنما هي لإنشاء بيوت حقائق (Fact Tanks) يقوم عليها أطراف من كل الانتماءات الدينية والإثنية وألوان الطيف السياسي والاجتماعي وغيرها ممن عرفوا بالصدق والنزاهة. إن مهمة هؤلاء ستكون بكل وضوح حراسة الحقيقة وتزويد الناس بآليات موثوقة لفرز ركام الأخبار المتساقطة على رؤوسهم ليل نهار. إنهم سيقدمون الحقائق في صورة إحصاءات وأرقام وأخبار من غير تعقيبات، ويكشفون عن التزوير والمبالغات في أجهزة الإعلام من غير أن يخلطوا الخبر بالتحليل أو الحقيقة بالرؤية، وذلك لتبقى مصداقيتهم فوق الطعن، ولا تؤثر تحيزاتهم المختلفة على مسار عملهم أو ثقة الناس بأخبارهم. ولعل ضبط الآراء ومنع الغلو فيها قد يبدأ من تحقيق الأخبار وتحري الصواب منها، وعندها تعتدل التحليلات والآراء والقناعات.
إنني كمسلم وإسلامي كذلك لا أرى تعارضًا بين خدمة الرسالة وخدمة الحقيقة فالحقيقة رسالتنا والحق ربنا، وهو القائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” [النساء: 135]
وصلى الله على محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين
دعوة إلى إنشاء بيوت حقائق
Date: مايو 6, 2012
|
|
Views: 855
|
Share:
Filed Under: قضايا معاصرة