في المقال السابق ذكرنا إيثار السلم كقاعدة إسلامية في العلاقات الدولية، وفي هذا المقال وما يليه نبرز جوانب أخرى من الرؤية الإسلامية لتلك العلاقات بين الدول والشعوب.
المساواة:
لطالما دفعت البشرية ثمنًا باهظًا بسبب العنصرية، ولقد جاء الإسلام ليجذر في نفوسنا معنى الأخوة الإنسانية ويذكرنا بخلقنا الأول من نفس واحدة: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ …” (النساء: 1) فإن كنا من نفس واحدة، وكلنا أبناء آدم وحواء، فلا جرم إذًا نكون سواسية لا تفاضل بيننا إلا بالتقوى: (إنَّ أكْرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتْقَاكُم).[الحجرات:13]
وعن العنصرية تحديدًا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا أَيُّهَا الناس أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ إلا لاَ فَضْلَ لعربي على أعجمي وَلاَ لعجمي على عربي وَلاَ لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ على أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى.” [مسند أحمد عن أبي نضرة عمن سمعه من رسول الله بمنى في أيام التشريق].
وعن التعالي على الخلق بسبب العرق والقبيلة والعشيرة قال – صلى الله عليه وسلم -: “إن أَنْسَابَكُم هَذِهِ لَيْسَتْ بسُبَّة على أَحَدٍ كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ.” [مسند أحمد عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه.]
ولقد عد الله التنوع البشري آية من آياته الدالة على كمال قدرته فقال: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ…” (الروم:22)
وإنه وإن كان حب الأهل والأوطان مركوزًا في نفوس الأسوياء، لكن العصبية مذمومة سواء كانت لجنس أو عرق أو قبيلة أو حتى للوطن، وذلك لأنها تدفع إلى البغي والعدوان على الآخرين، وما فتئت البشرية تدفع بسببها أبهظ الأثمان. لذلك، فقد نهانا الإسلام عنها جملة وتفصيلاً. قال رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: “ليس مِنَّا من دَعَا إلى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا من قَاتَلَ على عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا من مَاتَ على عَصَبِيَّةٍ.” [سنن أبي داود عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ – رضي الله عنه]
إن الأنسنة كمنهج معاصر لها ما لها وعليها ما عليها، ولكن الإسلام دعا إلى كل ما هو حسن فيه، وجاءت دعوته من فجر تاريخه عالمية إنسانية.
العدل:
العدل هو الأصل الذي قامت عليه كل تشريعات الإسلام، وهو أس منهجه وعامود فسطاطه. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ.” (المائدة:8) إن روعة هذه الآية هي أنها لم تأمر بالعدل مع عموم الناس فقط، ولكنها خصت الأعداء منهم، لأن النفوس السوية التي تنفر بطبيعتها من الظلم والطغيان وتعدل في أغلب الأحيان قد يغلبها الغضب فيوقعها في ظلم الشانئين المحادين، ولكن القرآن يذكرنا أن العدل واجب في كل حال ولكل أحد، حتى هؤلاء.
والمسلم يعدل في كل شيء، ومن ذلك أنه يعرف للناس فضائلهم، حتى وإن خالطها من الرذائل ما خالطها. لقد أرسل الله نبيه شعيبًا ليحذر قومه من بخس الناس حقوقهم فقال: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ). [هود:85] إن استعمال ميزان العدل في تقويم الناس أمر بالغ الأهمية في تعديل المزاج والحالة النفسية للأطراف في أي تفاوض أو شراكة أو خصومة.
الإحسان:
الإحسان بالقول والفعل مبذول لكل أحد لا يعتدي علينا ولا يروم ضررنا، بل وقد نعفو أحيانًا ونصفح عمن يفعل ذلك، بل وندفع السيئة بالتي هي أحسن، إلم يكن في ذلك تفريط في حقوق الدين والأمة.
انظر – رحمك الله – إلى قول الله تعالى: “لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ.” [الممتحنة: 8] أترى كيف عبر الله عن صفة العلاقة المحمودة مع الآخرين بلفظة البر التي تستعمل في إطار أسمى العلاقات، تلك التي تكون مع الوالدين.
لقد سئل ابن وهب تلميذ الإمام مالك – رحمهما الله – عن غيبة النصارى فقال: أوليسوا هم من الناس؟ فلما قال السائل: بلى، قال ابن وهب: فإن الله تعالى يقول “وقولوا للناس حسناً”. إنه لم يجبه بنعم أو لا فيقتصر الجواب على النصارى، ولكن أراد أن يرده إلى الأصل في التعامل مع الناس كلهم.
إن العاقل لا يسعى إلى صنع الأعداء، بل إلى تألفهم، وإن منهج الإسلام في التعامل مع الآخر لا يمنع من الظلم فحسب، بل يحض على تألف الناس بكل أنواع الإحسان، فإن البشر مجبولون على حب من يحسن إليهم. أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم — فطالما استعبد الإنسان إحسان! ومن ذلك أن الإسلام شرع لنا أن نبذل لهم من أموالنا كما في سهم المؤلفة قلوبهم.
إنه إن كانت الدول العظمى تتألف الشعوب بتلك المعونات والمنح التي تبذلها، فلقد دلنا الإسلام من قبل ذلك على أثر الجود في تألف الناس، فهذا رسول الله سأله أعرابي، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى قومه فقال :”يا قوم أسلموا فو الله إن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة”.
إن المبادرة إلى إغاثة المنكوبين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو مكانهم من أرض الله منهج إسلامي وفضيلة إنسانية وحكمة سياسية.
الإيجابية:
حين استُؤذن رسول الله بواسطة جبريل أن يطبق على أهل مكة الأخشبين، قال: ” بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا” [متفق عليه من حديث عائشة – رضي الله عنها]. إن خير الناس للناس يعلمنا بهذه المقولة العظيمة الكريمة أن نكون إيجابيين في تعاطينا مع الخلق، وأن نستثمر الفرص ونستشرف المستقبل ولا نسمح لمرارات الحاضر أن تأسرنا أو تمنعنا من رجاء فضل الله والثقة في سعة قدرته، وهو القائل: “عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.” [الممتحنة: 70]
في المقال القادم – إن شاء الله – نعرض إلى المزيد من ركائز الأيديولوجية الإسلامية بشأن العلاقات الدولية.
دبلوماسية الإسلام1/2
Date: مايو 6, 2012
|
|
Views: 1٬434
|
Share:
Filed Under: قرآن, قضايا معاصرة