استوقفني عند مطالعتي للصحف قرار حزب النور “السلفي” خوض الانتخابات البرلمانية علي ما يقرب من 50% من المقاعد على مستوى الجمهورية وما صاحبه من تعليقات. إن القائمين على الحزب لا شك أنهم أدرى بمصالحهم، ولكن من حق الناس أن تكون لهم آراؤهم وأن يعبروا عنها في إطار من حسن النية، والرغبة في الصالح العام، والموضوعية في التحليل، وكذلك الإدراك الكامل أن الرأي في هذه النوازل لا يعدو أن يكون رأيًا يخطئ ويصيب. وأنا هنا أحاول أن أناقش المعترضين على دخول السلفيين معترك السياسة، وكذلك أناقش حجم المشاركة الذي اختاروه، أو اختاره حزب النور تحديدًا.
إن بعض الناس يرى أن السلفيين لا ينبغي أن يخوضوا غمار الانتخابات والبعض يرى ألا يسمح لهم بذلك، ومنهم من ينطلق في رؤيته تلك من شدة بغضه لهم أو جهله بهم الذي دفعه إلى اعتقاد أنهم لا يصلحون للمشاركة في العمل الوطني. والبعض ينطلق من حرصه على نقاء الدعوة وبقائها خارج معترك السياسة “المليء بالنجاسات”. وللبعض رؤى أخرى، ولكن قطبي الاتجاه المؤثر لعدم مشاركتهم هما من ذكرنا.
إن مناقشة أصحاب الرأي الأول شديدة الصعوبة لأن البغض يعمي صاحبه عن الحقائق ويحرمه من الموضوعية. وهؤلاء يتناقضون فتارة ينسبون للسلفيين أنهم كانوا ضد الثورة ودعاة للاستكانة والرضى بجور الحاكم، وتارة أنهم المسؤولون عن كل عنف أو عمل مسلح ضد الدولة في العقود الأخيرة. يغيب عن هؤلاء – أو يتجاهلون – أن السلفيين لم يتفقوا بشأن المشاركة في المظاهرات على كلمة واحدة، بل رأينا من مشايخهم من خرجوا إلى ميدان التحرير، وهم – في رأيي – الأسعد بالصواب. أما الذين لم يشاركوا، فأكثرهم دعموا الثورة بوسائل شتى كحماية المناطق السكنية وغيرها، وليس أكثرهم إلا نزلاء معتقلات تلك النظم الجائرة ومن أوفر الناس حظًا بقمعها وبطشها، ولا أظن أن تيارًا من غير الإسلاميين لاقى معشار ما لاقوه على أيديها. وفي نفس الوقت، فإن السلفيين ليسوا شيئًا واحدًا، وإن كان منهم من ينطلق من مبادئ عقدية تمنعه – كما فهم – من أي شكل من أشكال الخروج على الحاكم مهما بلغ جوره، لكن القضية بالنسبة لأكثرهم كانت موازنة بين المصالح والمفاسد، ولم يكن حسمها بتلك السهولة، فلو فشلت الثورة لعاد كل واحد من غير الإسلاميين إلى سربه فهم عند تلك الأنظمة “ولادنا الطيبين”، ثم بطش بالإسلاميين فهم “الأشرار أصحاب الأجندات الخفية”.
والسؤال الآخر هنا: هل خرج كل الليبراليين والاشتراكيين والقوميين والوطنيين، إلخ، من أهل مصر إلى ميدان التحرير؟ الكل يعرف أن هذا لم يكن. فلماذا يحاسب السلفيون إذًا على عدم خروج بعضهم؟ لعل التيارات الأخرى لم يكن لها وجود فاعل ولا قيادات ظاهرة ينقل قولها ويسجل عليها. أفيكون ذلك مسوغًا لتبرئة هؤلاء واتهام الآخرين؟ وهل الثورة هي فعل المصريين من 25 يناير إلى 11 فبراير، على عظيم ما أبلوا في هذه الأسابيع؟ أم أنها نتاج مقاومة مستمرة من قبل ملايين المصريين لمحاولات طمس هويتهم وتدجينهم وتجهيلهم وقمع كل مخالف منهم؟ أوكان السلفيون من أركان النظام القديم؟ أوكانت منابره مفتوحة لهم كما كانت مفتوحة لغيرهم من أصحاب التيارات الأخرى؟ أكانت لهم أعمدة بالصحف القومية؟ أوكانوا يستضافون في قنوات التليفزيون المصري ليعبروا عن آرائهم؟ أم كانوا فقط مرمى سهام كل المتنفذين في النظام السابق والمتملقين من الكتاب المدجنين من أبناء التيارات الأشد هجومًا عليهم الآن؟
أما الزعم بأنهم وراء كل عنف أو عمل مسلح في العقود الأخيرة، فصاحبه لا يدري ما يقول، أو عمدًا يحمل السلفيين تبعات ما كانوا ينكرونه ليل نهار، وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن “الظلم ظلمات.”
أقول لهؤلاء، إن كان السلفيون لا وجود لهم في أرض الواقع، ففيم الخوف؟ وإن كان غير ذلك، فما الذي ترونه لهذه الكتلة البشرية من أهل مصر؟ أفي قاموس الليبرالية قمع وإقصاء قطاع واسع من الشعب؟ فإن رأيتم أنهم أصحاب دعوة منحرفة عن حقيقة الإسلام الذي أنتم أولى به وأهله، فهلا عاملتموهم كأقلية دينية؟ أليس في دخولهم معترك السياسة فرصة لهم للتعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع حاضر ومستقبل بلادهم، وهي كذلك فرصة ليروا عن كثب واقع السياسة وتعقيداتها ووعورة مسالكها وتداخل فضاءاتها، فربما كان لهذا أثر على تخفيف ما يراه البعض من حدية وتشدد في آرائهم ومثالية منعزلة عن الواقع في أفكارهم. إن القمع والإقصاء لن يكون فيهما خير البلاد، ولا تغلب بهما التوجهات الفكرية، بله الدعوات الدينية، وصدق الدكتور القرضاوي إذ قال: تالله ما الدعوات يهزمها الردى يوما وفي التاريخ بر يميني.
أما الفريق الثاني من المحبين للدعوة السلفية والحريصين على عدم “تنجسها بأوحال السياسة” فيقال لهم، أوليس هذا هو الخصام النكد بين النظرية والتطبيق والمثال والواقع؟ أوليس لله في كل واقعة حكم؟ أو لم يقل الإمام الشافعي: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.” والمقصود، بالإضافة إلى الأدلة التفصيلية، تلك القواعد العامة للشرع الإسلامي التي تحكم اختيارات المجتهدين. أو لم نتعلم من تجارب التاريخ الطويل أن ترك الساحة والعمل العام مخافة التدنس بأوحاله هو سبيل لا يخطئ إلى تسلط الجبارين والمتكبرين في الأرض؟ إنه إن فرضت السياسة أنواعًا من التنازلات على من يخوض غمارها، فلئن كان في تقديمها ما يكون به صلاح البلاد والعباد، فتقديمها هو الأرضى لله ورسوله، وليس تنجسًا بأوحال السياسة، فإن الشرعي منها “ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”؟ كما نقل ابن القيم مقرًا عن ابن عقيل – رحمهما الله. إنكم تصيبون إن طالبتم أعيان الدعاة، سيما من لا خبرة لهم بالسياسة، بترك مسافة بينهم وبين تفاصيل العمل السياسي، حتى يبقى منهم من هم فوق الأحزاب ومن تبقى قلوب الناس كلهم مفتوحة لهم.
أما نسبة المشاركة التي اختارها حزب النور، وهو واحد من عدة أحزاب تنسب إلى التيار السلفي، فلعلي أراها فوق المطلوب، سيما لأبناء تيار عرف بالبعد عن العمل السياسي في المرحلة السابقة ولم تتكون له بعد كوادر مؤهلة له. إن مجلس الشعب لا ينبغي أن يكون كما سبق ملتقىً لتبادل المنافع وبعض الكلمات في مسرحية هزلية يعرف الجميع أنها صورية وأن شيئًا ذا بال لا يمكن أن يخرج من رحمها. ولكن ينبغي أن تقدم له جميع التيارات في الساحة المصرية زبدة ما عندها من كوادر قادرة على البحث والتحليل والترجيح في أمور العامة كافة، وذلك يحتاج إلى معرفة بالمنشود وخبرة بالواقع. إن الحقيقة التي لا تخفى على الكثيرين هي أن أبناء التيار السلفي فيهم كوادر علمية راقية، لكن لحالة العزوف عن العمل السياسي (وليس العمل العام)، فإن جلها في تخصصات كالطب والهندسة وتقنية المعلومات، وقليل منها من كان له تخصص في علوم السياسة والاقتصاد والأمن والإدارة، وقليل كذلك من مارس شيئًا من ذلك في الواقع العملي. إن نسبة المشاركة المعلنة قد يكون وراءها اعتبارات موضوعية ككون المرحلة القادمة حاسمة في اختيار أعضاء اللجنة الدستورية، ولا شك أنه من حق كل التيارات أن تسعى لتمثيل يعكس وجودها الحقيقي ويمكنها من المشاركة الفاعلة في وضع خريطة طريق لمستقبل البلاد، لكن هناك أحزاب أخرى تنتمي إلى نفس التوجه الفكري لحزب النور، وهناك تيارات إسلامية أخرى كذلك. والأهم أن يدرك الجميع أن التأثير في العمل السياسي لا يكون فقط بالترشح، ولكن بالتصويت لصالح المرشحين الأقرب إلى الفوز والأقرب إلى توجهات هذه الكتلة التصويتية أو تلك، وكذلك بالتحاور معهم والحصول على تعهدات منهم، كما هو الشأن في كل الديمقراطيات المعاصرة. ثم إن الدستور نفسه يتغير ويضاف إليه ويحذف منه بأغلبية ثلثي الأعضاء، وقد يكون ذلك بالاستفتاء العام. لعل دخول معترك السياسة مهم لأبناء تلك الدعوة لإعادة المزاوجة بين النظرية والتطبيق، في ضوء اجتهاد يحافظ على الثوابت ويستوعب المتغيرات، كالذي كان في أيام الخلافة الراشدة، والذي مكن الأمة من استيعاب ثقافات شتى مما أدى إلى فعل حضاري وعمراني وثقافي لم يشهد العالم له مثيلاً في تاريخه. ولكنني أرى أن الدخول المتدرج أولى بهم وأحفظ لرصيدهم عند الناس، وأرفق بالبلاد كذلك في تلك المرحلة الحرجة من تاريخها.
وصلى الله على محمد.
مناقشة هادئة لقرار خوض السلفيين للانتخابات.
Date: مايو 6, 2012
|
|
Views: 824
|
Share:
Filed Under: قضايا معاصرة