قضية الممثلة إلهام شاهين ليست حدثًا منعزلاً، بل أنموذج لأحداث مشابهة كثيرة يتوقع أن تبرز من حين لآخر، وذلك لأن عدم بروزها من قبل كان سببه أن النخب العلمانية والسلطة السياسية والوسط الفني كانوا– إلا من رحم الله – حلفًا منسجمًا – على ما بينهم من خلافات – ضد الغالبية العظمى من شعب مصر المتدين. لقد مارس هذا الحلف على مدى عقود طويلة جرائم الإقصاء والتسفيه وسائر أنواع السخرية والعدوان ضد تلك الأغلبية التي ازدروها. أما الإسلاميون خصوصًا، فكانت أعراضهم وسمعتهم كلأً مستباحًا لكل هؤلاء ولم يكن لهم سبيل للذب عن أنفسهم. وبالتوازي كانت السلطة السياسية وذراعها الأمني يدهم الباطشة التي تمارس قمع هؤلاء الإسلاميين بكل الوسائل التي يندى لها جبين الضمير الإنساني. أما الآن، فقد صار لهؤلاء المستضعفين صوت يسمع ويؤبه به، ومن ثم فيتوقع أن يكون هذا التدافع بينهم وبين تلك الفئات متكررًا، فلا بد لنا إذًا من دراسة هذه النازلة وتحليلها ومعرفة أمثل السبل للتعامل مع أمثالها.
أولاً ما صدر من فضيلة الدكتور عبد الله بدر – حفظه الله – كان ردة فعل تجاه امرأة أساءت للتيار الإسلامي كله كما فعل الكثير من أبناء وسطها. وردود الأفعال يصاحبها من الغضب ما هو معلوم لنا جميعًا، فيقع فيها من التجوز بل والتجاوز ما يقع. ولقد كان الأحب إلينا أن يكظم فضيلة الدكتور غيظه المبرر ثم يجيب بجواب قوي يناسب المقام، ولكنه أضبط وأحكم مما أجاب به. أما أن يقال إنه قذفها، فهذا – فيما أحسب – خطأ. ألا ترى أن كلام الناس يفهم من القرائن المحتفة به؟ أليس في فقهنا الإسلامي أن ألفاظ الطلاق فيها الصريح والكناية؟ فلو أن رجلاً قال لامرأته أنت طالق، فلا يراجع في نيته بهذا القول لأنه أصرح الصريح، ولكنها لو كانت في وثاق ففكه ثم قال لها أنت طالق، لكان لنيته هنا أثر في الحكم. إن فضيلة الدكتور كان يتكلم عما تقدمه هذه المرأة في أعمالها “الفنية” من فحش وخنا. فكيف يكون ذلك قذفًا لها بالزنا بمعناه المستوجب للحد؟ كل السامعين يعرفون أن هذا لا يكون في الأفلام والمسلسلات، وكلهم يفهمون أنه أراد بلفظ الزنا ما يكون من زنا العينين والأذنين واليدين.
هذا من جهة الحكم الفقهي، أما من جهة النصيحة الواجبة لكل أحد من أئمة المسلمين وعامتهم، فأوجه نصيحة أخ مشفق لمن يبلغه مقالي هذا من الممثلين والإسلاميين الغيورين وأولئك المبتلين بالولاية والوجاهة وتقلد المناصب السياسية.
أولاً: نصيحتي للممثلين
اعلموا أيها الإخوة والأخوات أننا لا نحجر واسعًا من رحمة الله التي نرجو أن تدركنا وإياكم، ولا نتعالى عليكم بذواتنا، ولا نقطع لكم ولا لأنفسنا بجنة ولا نار، بل نحب لنا ولكم السلامة والعافية، فكلنا على خطر حتى يختم الله لنا بالحسنى. ولكن يا من تؤمنون بالله تعالى ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – نبيًا، هلا صدقتم أنفسكم فأنجيتموها من المعصية التي هي سبب لعذاب الله! أقسم لكم بالله أنه لن ينجيكم عالم سوء يتعرض لسخط الله ليرضيكم ولا اعتذاركم بجهل ما هو معلوم من دينكم بالضرورة. لقد استعمل أكثركم على مدى عقود طويلة في هدم حصوننا من الداخل، فحببتم إلى الناس التعري والعلاقات المحرمة وشرب الخمور والاختلاط الماجن والتمرد على الأعراف الصالحة وسخرتم من قيمنا وتعاليم ديننا والمصلحين منا. هلا سألتم أنفسكم هذا السؤال: أيجوز عند الله وفي دين الإسلام أن يقبل رجل امرأة مستلقيًا فوقها وهي نصف عارية بحجة أن هذا تمثيل؟ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، ولا تكونوا كفرعون وملئه الذين “جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا”… وانظروا “كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.”
ثانيًا: نصيحتي للإسلاميين الغيورين على دين الله ومحارمه
أي مشايخي وإخواني، أرايتم كيف كان موقف الرئاسة من هذه القضية؟ أرجوكم أن تنظروا حولكم. إنه ليس وقت توتير الأجواء وتفجير الأزمات. إنه عالم معقد متشابكة خيوطه، واستقلال دولنا المسلمة لن يكتمل فيه حتى نزرع طعامنا ونصنع سلاحنا. إننا لا نستورد الطائرات والحواسيب فقط، بل نستورد السبح والقلانس. إن البنية التحتية لبلادنا مهترئة إلى أقصى حد، ولست أعني بذلك المرافق فقط، بل الأدهى هو ضياع الأخلاق الصانعة للحضارة. إن كثيرًا منا لا يصدقون في الحديث وأكثرنا لا يفون بالوعد ولا يتقنون عمل أي شيء، بل ولا ينظفون أفنيتهم وساحاتهم. إن بلدًا كالولايات المتحدة يتقدم فيها المخترعون سنويًا لتسجيل نصف مليون براءة اختراع، يسجل منها مائتا ألف تقريبًا. أربعوا على أنفسكم ووجهوا جهودكم لتعبيد الناس لربهم وصناعة ثورة أخلاقية وحضارية تليق بهذا الدين. نريد مزاحمة فكرية وثقافية وبدائل حسنة لكل ما هو قبيح في واقعنا؛ ونريد فعلاً حضاريًا ترقى به أمتنا؛ نريد شبابًا مسلمًا نابهًا مبتكرًا وصادقًا أمينًا لننافس بهم الأمم في العطاء الحضاري لصالح البشرية جمعاء. أعلم أن قمع المفترين مقصود شرعي، وأن القول الشنيع قد يكون مقتضى الحكمة أحيانًا إذا قيل لمستحقه. ولكننا بحاجة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى قيادة مجتمعاتنا نحو حوار أهدأ وأرفق. لقد مل الناس الصراخ، والخاسر الأكبر لثقتهم وتعاطفهم هو من سيبقى يصرخ. نظموا صفوفكم في جماعات ضغط وهيئات ومؤسسات اجتماعية وثقافية تحمي قيمنا، لا من خلال الدعوة الربانية فقط، بل أيضًا من خلال الفعل السياسي والحراك الثقافي والظهور الإعلامي والتواصل المجتمعي.
ثالثًا: نصيحتي لولاة الأمور والمتصدرين
أيها الأحباب، نعرف ما أنتم فيه من ابتلاء وندرك حجم التبعة، وسنقيلكم عثراتكم ثم نقيلكم ثم نقيلكم، ولكن أرجو ألا تنسوا في خضم التحديات والمشاغل أن دين الله أعز علينا من مهج أنفسنا، بل نبذلها دونه، وأننا ما أردنا الدنيا إلا لحراسة الدين، فلا تفرطوا فيه. وإنني أيضًا لسائلكم بالله ألا تخذلوا إخوانكم من أهل الدين، سيما العلماء منهم والدعاة المخلصين، وأن تنصروهم في الحق، ألا ترجون نصرهم لكم وقت الحاجة؟ ومن قبل ذلك ومن بعد، ألا تحبون أن ينصركم الله؟
لماذا لم تدع الرئاسة أحدًا من الإسلاميين في لقائها مع الفنانين والكتاب والمثقفين؟ أم أن الرئاسة ترانا جميعًا غير مثقفين؟ لكأن قائمة المدعوين وضعها صاحب ديوان مبارك! أما الكلام في أثناء هذه الفتنة عن رفض جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة للتعرض للأعراض وتقديرهما لدور الفن، فهذا شيء مثير للشفقة فعلاً. عن أي فن تتحدثون؟ إن الكلام المطلق إذا خرج في سياق وقائع بعينها لم يبق على إطلاقه. إن كان المتحدثون الرسميون لهذه الكيانات الإسلامية، سيما غير السياسية، لا يجدون كلامًا موزونًا، فللسكوت خير لهم ألف مرة. نعلم أن الرئاسة قد لا تستطيع أحيانًا أن تناصر الحق وشيعته، لكن نرجو منها ألا تناصر الباطل. إن الواجب الآن هو ترك هذه المواضيع للتدافع المجتمعي المضبوط والمحكوم بالقوانين السارية. فلتخرج الرئاسة من هذه السجالات ولتدعها لنا أفراد المجتمع المصري، وليكن دورها التشجيع على سن القوانين التي تحفظ للمجتمع قيمه ولأفراده حرياتهم، وتقيم بينهم ميزان العدل، حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يشعر أحد بالقهر في دولتنا الجديدة الفتية التي نرجو أن تؤسس على العدل وتحلق بجناحي الرحمة والفضيلة.
وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين