كتب لصحيفة الوسط
قد تأتي المحن ببعض المنح، وربما يكون في رحمها صبح جديد تشرق على الناس شمسه بعد أن ظنوا أن سواد الليل لا ينقضي. والصبر يكون باحتمال المحن من غير جزع والرضا أن تكون النفس مطمئنة واثقة بوعد الله مهما عظمت الخطوب، ولكن الحكمة ألا يقنع المرء بالاحتمال حتى يسعى ليحول المحنة إلى منحة وليكشف عن عطايا مولاه المخبأة في طياتها.
إن المسلمين في الآونة الأخيرة ما زالوا يتعرضون لصنوف وألوان من الشدة والضيق، فحري بنا أن نبحث عن العطايا المخبأة في تلك الشدائد والأبواب المفتحة إلى واسع فضله تعالى في تلك المضايق.
ولعل في تصويت أغلب السويسريين لصالح منع بناء منارات المساجد ما يستأهل التوقف عنده للتأمل والاعتبار. ولكن قبل ذلك، لنضع الأمور في نصابها، فإن هذا الحدث ليس من أهم أو أخطر ما نزل بأمتنا في الآونة الأخيرة، ولا هو من مصائبنا الكبرى، فأين هذا من جراح كثر غائرة في فؤاد أمتنا؟ فهذا أقصىً أسير وتلك بلاد مسلوبة وأعراض مستباحة، وما زلنا نعاني في أكثر بلادنا من بغي وظلم نصبح في أتونه ونمسي. ولكن في نفس الوقت، هل ينبغي أن تمنعنا المآسي الكبار من التصدي لما دونها، لو فعلنا ذلك لتهاوينا إلى قعر سحيق، بل لا يستهان أصلا بشيء من تلك المآسي فإن الجبال من الحصى. أما حادثة التصويت ضد بناء المنارات نفسها فلا يحسن بنا أن نتهاون بها ونقلل من دلالاتها ومآلاتها.
ولعل قائلا يقول: وما الحاجة إلى بناء المنارات؟ وهل تلزم؟ أوليس من الأولى توجيه تلك الأموال لبناء مرافق أخرى بالمسجد تكون أنفع وأجدى؟ والجواب أن القضية ليست عن شيء من ذلك، بل عن مغزى منع بنائها في بلد أوروبي ليس فيه إلا أربع منها. القضية في انتفاش اليمين وبدئه في التخطيط لمؤامرات أخرى كإجبار الطالبة المسلمة على حضور دروس السباحة المختلطة وغير ذلك كثير.
إن القراءة المتأنية لهذا الخبر تكشف عن معان كثيرة ينبغي أن تتدبر، ومنها:
أولا: هناك حالة من كراهية الإسلام أو الخوف منه أو الجهل به، بعض ذلك أو كله، بنسب متفاوتة عند شرائح واسعة من الأوروبيين. ولكن لم الخوف من الرجل المريض كما كان الأوروبيون يسمون الخلافة العثمانية؟ إن الجواب في أمرين: أولهما أن هذا المريض لا يموت، بل وهناك إرهاصات يعقلها العالمون أنه بدأ يتعافى. والأمر الثاني هو أن الحضارة الغربية التي يريد البعض استنساخها في بلاد المسلمين بحلوها ومرها فيها مع عوامل النجاح العظيمة بذور الفناء. إن الإغراق في المادية وحب الذات جعل الإنجاب ورعاية الأبناء بالنسبة للغربيين مضيعة لوقت ثمين ينبغي أن يملأ بطلب متاع الدنيا ونعيمها. إن ارتفاع عدد مواليد المسلمين في أوروبا في مقابلة انخفاض أعداد المواليد من السكان الأصليين قد أصاب كثيرين بالذعر. ولكن قد يقول قائل إن المسألة إنما تتعلق بكراهية المهاجرين سيما في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد يكون ذلك من عوامل هذا التحول في مواقف الأوروبيين، ولكن المتابع للأمر برمته لن يملك إلا أن يرى مشاعر الكراهية ضد الإسلام كمحرك رئيس للأحداث. ومن المفارقات أن هذه الأزمة الاقتصادية إنما تسبب فيها الربا والغرر والغبن وكلها أراد الإسلام أن ينقذ البشرية من غوائلها.
ثانيًا: إن خصوم الإسلام قد أجلبوا عليه بكل ما عندهم من آلات تشويه وكذب، فهم خوفوا الناس في حملتهم ضد المنارات من اضطهاد المرأة في الإسلام وختان البنات وغيرها من أكاذيب مختلقة ينقلها الآخر عن الأول ولا يدري أحد من ذلك شيئًا. إن رجلا بقيت عنده مسكة عقل لا يملك إذا قارن بين وضع المرأة في الإسلام وغيره من الأديان إلا أن يقر بأنه لم يكرم المرأة ويرفع قدرها من الأديان دين كالإسلام. ولا يقولن أحد إن هؤلاء علمانيون يحاربون التدين جملة لا دينًا بعينه، فلم إذًا يمنعون منارات المساجد دون أبراج الكنائس وغيرها من المعابد؟
ثالثًا: ما أسرع ما تؤكل أصنام العجوة عند الحاجة! فأين الحريات وحقوق الإنسان وتلك المقولات التي رفع بها المنظرون لعالم الحداثة عقيرتهم في كل نادٍ؟ كل ذلك لم يمنع غالبية السويسريين من إظهار خصومتهم للإسلام وعدم احتمالهم لرمز من رموزه وإن كان بناءً مرتفعًا قليلا في بلد كلها جبال، كما قال وزير الخارجية الفرنسي.
رابعًا: إن هوان الأقليات المسلمة في الغرب راجع إلى هوان الأمة ككل، فنحن نرى الأبيض والأحمر يسعى بذمة قومه، ولكن المسلمين لا بواكي لهم، أو قل لا حامي من الناس لهم.
خامسًا: إن الاقتراع وحكم الغالبية آليات لا مناص من تفعيلها من أجل حل النزاعات بين أبناء الوطن الواحد، وليس ينكر الإسلام ذلك. لكن هذه الآلية ينبغي ألا تقدس ولا بد لها من سقف وإطار. هذا الإطار يتوافق عليه أهل البلاد، فقد يكون الحرية الشخصية في بعضها أو الاشتراكية أو غير ذلك من العقائد الفكرية، فلا يسوغ أن ينكر أحد على أهل الإسلام أن يجعلوه إطارهم. لقد رأينا الديمقراطية تسمح في أمريكا بالتمييز ضد أحد أجناس البشر لمئات السنين، والآن نراها تميز ضد أبناء دين بعينه في فرنسا حيث منعت طالبات المدارس من الحجاب والآن في سويسرا. ” وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا “
سادسًا: وهو أهم تلك المعاني: هل بقي حبل إلا حبله تعالى؟ ما أكثر ما ظن كثير من المسلمين بل والإسلاميين أن الغرب هو ملجؤهم من جور السلطان في بلادهم وعسف النظم القمعية بها، مع علمهم أنها لم تكن وتدم كل هذا الزمان إلا بدعم من الغرب ذاته. ولكن السؤال الآن هو ما إذا كان هناك من بقي على تعلقه بحبال غير حبل الله؟ أرجو أن يدرك اللائذون ببيوت العنكبوت الحقيقة قبل فوات الأوان، ولات حين مناص.
إن الذي ينبغي علينا هو:
أولا: أن ترسو سفننا على شاطئ الإخلاص لله والعبودية الحقة وأن نصدق في اللجوء إليه والتوكل عليه، ولتدرك قلوبنا ” أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ” ولتلهج ألسنتنا بـ ” حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ “
ثانيًا: العناية بإقامة المساجد وعمارتها وتجهيزها بكل ما يلزم لتكون موئل المسلمين ومهوى أفئدتهم، فإن المسجد في الغرب هو سفينة نوح للمسلمين المقيمين بتلك البلاد، ولدوره أهمية تفوق نظيرتها في الشرق على عظيم قدرها. إننا نرجو الله ألا يفعل قرار منع المنارات، ولكن إن فعل، فلير المسلمون بتلك البلاد ربهم منهم خيرًا وليضاعفوا بناء المساجد وتوسيعها وتحسين مرافقها وتكثير أنشطتها.
ثالثًا: إن الحكمة ضالة المؤمن وإن المسلمين الذين يعيشون بين الأوروبيين لا ينبغي أن يستنكفوا عن الإفادة من بعض صفات القوم كحلمهم عند الفتن وسرعة كرهم بعد الفر وإفاقتهم من المصائب. ولتكن هذه الحادثة تجربة لبعض هذا السلوك، فلتلتئم فرق من أولي الأحلام والنهى للتأمل والتدقيق في قراءة الحدث ثم وضع آليات لمنع عواقبه أو جلها أو بعضها في حدود المقدور والمتاح.
رابعًا: ينبغي على المسلمين المقيمين بالغرب أن يدركوا أن عليهم بذل جهد لتوطين الإسلام في تلك البلاد، فالإسلام قد صار واقعًا في أوروبا وسيمضي قطار الزمان وفق مراد الله لا مراد العباد، وقد قضى أن يدخل الإسلام في كل بيت مدر ووبر. ولكن في نفس الوقت، فإن عليهم ألا يحرقوا سفنهم ولا يهدموا جسورهم مع بلادهم الأصلية، وحتى من كانت أصوله أوروبية ينبغي أن يحرص على مد جسور من التواصل بين أسرته وبعض بلاد المسلمين، فإننا لا ندري فقد يحدث الله بعد ذلك أمرًا.
خامسًا: أن نسبق المبطلين إلى قلوب الناس وعقولهم، فكفاحنا ليس ضد شعوب الأرض بل من أجلها. لقد خاطب ربنا تعالى رسولنا – صلى الله عليه وسلم – قائلا: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ” فليكن المسلم بالغرب من العدول الذين ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين، وليحسن كل منا السفارة عن دينه وأمته. إن جمًا غفيرًا من السويسريين قد صوتوا ضد منع المنارات، فلنتواصل مع هؤلاء ولنسع في توسيع رقعة الموادعين وتضييق رقعة المعادين. إن دعوتنا الناس إلى الخير وهدايتهم إلى الحق من أعظم القربات إلى الله ولكن مجرد تحويل الناس من محادين للدين وأهله إلى موقرين له متسامحين مع أهله لغاية صالحة لا ينبغي أن يقصر في إدراكها.
سادسًا: إنه على المسلمين في الغرب أن يشاركوا في تحقيق الصالح العام للمجتمعات والدول المضيفة، فإن مبدأ التعاون على البر والتقوى شريعة عامة. ولكن عليهم أن يدركوا أن هذه الأمة المسلمة إنما هي أمة واحدة، فليعملوا على رفعة أمتهم جمعاء، ولا يدخروا في هذا السبيل مالا ولا جاهًا ولا علمًا ولا مهارة أو خبرة. إن في عزة أمتهم عزة لهم ومنعة ومهما قويت مجتمعاتهم في البلاد المضيفة، فستبقى أمة الإسلام مأرزهم عند الحاجة وركنهم الشديد الذي يأوون إليه في أوقات العسر.
اللهم اجعل لنا بعد هذا العسر يسرًا.