الحمد لله،
الملخص:
أقول للمرأة المسلمة التي تعاني من حرج هذه الإفرازات الطبيعية: ليس بك شيء، بل إن عدم هذه الإفرازات هو ما يستأهل القلق ومراجعة الأطباء.
فإن رأيت منها شيئًا خرج منك، فالأصل خروجه من ظاهر الفرج، وهذا طاهر ولا ينقض الوضوء عند عامة أهل العلم، فلا تفتشي عن مصدره.
فإن تيقنت من خروجه من باطن الفرج أو المهبل، فإنه أيضًا طاهر عند جمهورهم.
أما نقضه للوضوء، فإن كان يخرج في نصف الأوقات أو أكثرها فلا ينقض الوضوء عند المالكية، وإن كان دون نصف الوقت، فلا ينقضه كذلك عند بعضهم.
وإن لم تكن إفرازاتك تخرج بصفة متكررة لتكون من الأحداث الدائمة، فيسعك أن تأخذي بما ذهب إليه الإمام الحبر البحر ابن حزم واختاره بعض المحققين من المعاصرين من أنها لا تنقض الوضوء في أي حال.
التفصيل:
رطوبة فرج المرأة تُشير إلى الإفرازات الطبيعية التي تفرزها الغدد الموجودة في منطقة المهبل وعنق الرحم. تُساعد هذه الإفرازات في الحفاظ على رطوبة المهبل وصحته، فهي كالمخاط الذي في مجاري الهواء من الأنف إلى الرئتين، كما تلعب دورًا هامًا في الحماية من العدوى والتهيجات وتسهيل عملية الجماع. هذه الإفرازات غالبًا ما تكون شفافة أو بيضاء، وعديمة الرائحة، وتختلف كميتها وطبيعتها باختلاف مراحل الدورة الشهرية ومستوى الهرمونات.[1]
يتبين من هذا التعريف أن هذه الرطوبة إفراز طبيعي مستمر، يقل ويكثر، ولكن لا يفارق المرأة، وليس مما ابتليت به نساء عصرنا، كما يفهم البعض.
وسبب الكتابة في الموضوع هو كثرة سؤال النساء عنها وشعور الصالحات بالحرج لأن ما انتشر بين الناس هو اختلاف أهل العلم في نجاسة هذه الإفرازات مع القول بأن عامتهم على نقضها للوضوء، ولأن خروجها (لا مجرد إفرازها) لا يستغرق أكثر اليوم أو أغلبه، فمعاملتها كالسلس لا يتيسر لأغلب النساء كذلك.
والمناقشة هنا تشمل:
- الإفرازات الطبيعية لا المرضية
- التفريق بين ما خرج منها وما لم يخرج
- التفريق بين إفرازات ظاهر الفرج الذي يغسل وباطنه
- حكم الأحداث الدائمة
- الكلام على حكمها من حيث الطهارة والنجاسة
- الكلام على حكمها من حيث نقضها للوضوء أو عدمه
- الإفرازات الطبيعية لا المرضية
قد تزيد هذه الإفرازات في بعض الحالات المرضية، ويتغير لونها، ولعل ما يشار إليه بالكدرة والصفرة إن لم يكن متصلًا بالحيض، فهو من هذا الباب، ولكن موضوع بحثنا هذا عن الإفرازات الطبيعية، لا المرضية.
- التفريق بين ما خرج منها وما لا يخرج
موضوع بحثنا الآن عما خرج من الفرج، أما الإفرازات داخله، فلا حكم لها، حتى إن كانت نجسة، فلا يترتب على ذلك تكليف.
- التفريق بين إفرازات ظاهر الفرج الذي يغسل وباطنه
وهذا أيضًا تفريق مهم، بل لعله يرفع الحرج عن كثير من النساء. إن لفرج المرأة ظاهرًا يغسل وباطنًا لا يغسل، فأما الظاهر، فإفرازاته كالعرق، فلا تدخل في الخلاف على إفرازات الباطن. والشافعية القائلون بنجاسة رطوبة باطن الفرج يقولون:
«(ورطوبة الفرج) أي القبل وهو ماء أبيض متردد بين المذي والعرق يخرج من باطن الفرج الذي لا يجب غسله بخلاف ما يخرج مما يجب غسله فإنه طاهر قطعا»[2]
بل قالوا: «اعلم أن رطوبة الفرج على ثلاثة أقسام: طاهرة قطعا وهي الناشئة مما يظهر من المرأة عند قعودها على قدميها، وطاهرة على الأصح وهي ما يصل إليها ذكر المجامع، ونجسة وهي ما وراء ذلك»[3]
فإن شكت المرأة في الخارج منها، من أين، فالأصل أنه من الأقرب، وكذلك فإنه لا يزول يقين طهارتها السابق بالشك في انتقاضها، فلا شيء عليها.
وفي فتاوى دار الإفتاء الأردنية: ” أما إن خرجت من ظاهر الفرج أو لم تستطع المرأة تحديد مكان خروجها فالأصل الطهارة ولا تنقض الوضوء.”[4]
- حكم الأحداث الدائمة
إن كانت هذه الإفرازات تخرج بصورة مستمرة، فتعامل معاملة السلس عند عامة أهل العلم القائلين بنقضها للوضوء، فإن كانت تخرج في أغلب الأوقات أو نصفها، فلا تنقض الوضوء عند المالكية، فإن كان دون ذلك، فلا تنقضه كذلك عند العراقيين منهم. وفي منح الجليل: «(و) نقض الوضوء (بسلس) بفتح اللام أي خارج بلا اختيار من بول أو مذي أو مني أو ودي أو غائط أو ريح أو دم استحاضة ونعته بجملة (فارق) أي السلس الشخص أي ارتفع عنه (أكثر) الزمن أي ما زاد على نصفه فإن لازمه كل الزمن وأكثره أو نصفه فلا ينقضه وهذه طريقة المغاربة وهي المشهورة وطريقة العراقيين أنه لا ينقض مطلقا ” ويندب الوضوء منه إن لم يلازم كل الزمان»[5]
وقد رجح الإمام أبو العباس ابن تيمية في آخر قوليه مذهبهم وأفتى بأن «الأحداث اللازمة: كدم الاستحاضة، وسلس البول لا تنقض الوضوء”[6]
- الكلام على حكمها من حيث الطهارة والنجاسة
هذه الإفرازات طاهرة في مذهب أبي حنيفة ، وأحمد، وإحدى الروايتين عن الشافعي، صححها النووي، وهي كذلك عند الظاهرية.
وهي نجسة في مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عند الحنابلة.
وأقوى أدلة القائلين بالنجاسة ما في الصحيحين من أن زيد بن خالد سأل عثمان بن عفان: “أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .»
قالوا: “الحديثان في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل منسوخان كما سبق في باب ما يوجب الغسل وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فثابت غير منسوخ وهو ظاهر في الحكم بنجاسة رطوبة الفرج.”[7]
وقاسوها على بقية الخارج من السبيلين، فجعلوا الأصل في الخارج منهما النجاسة، وإنما استثنى المني – عند من يقول بعدم نجاسته – للدليل.
وقالوا إن «رطوبة فرج المرأة- عندنا – نجسة لاختلاطها بالبول وغيره.»[8]
وقالوا: «نجس؛ لأنها بلل من الفرج، لا يخلق منه الولد، أشبه المذي.»[9]
وقالوا: “نجسة لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة”[10]
واستدل القائلون بالطهارة ويستدل لهم بما يأتي:
أولًا: أن الأصل الطهارة، والحكم بالنجاسة هو الذي يفتقر إلى الدليل، والمسكوت عنه في دائرة العفو.
ثانيًا: استدلوا بحديث عائشة في الصحيحين حيث كانت تفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه، قالوا: “وهو من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون، وهو يصيب رطوبة الفرج»[11] فلو كانت الإفرازات نجسة لحكمنا بنجاسته ونجاسة مني المرأة، لأنهما يلاقيان هذه الرطوبة ويختلطان بها، وفي كشاف القناع: «(وكذا رطوبة فرج المرأة) طاهرة للحكم بطهارة منيها، فلو حكمنا بنجاسة رطوبة فرجها، لزم الحكم بنجاسة منيها.»[12]
ثالثًأ: قالوا: “«(ورطوبة فرج المرأة) وهو مسلك الذكر طاهرة كالعرق والريق والمخاط والبلغم ولو أزرق، وما سال من الفم وقت النوم»[13] وتشبيهم إياها بالمخاط والبلغم دقيق، وكلاهما طاهر. وفي المجموع: “ومن اصحابنا من قال هي طاهرة كسائر رطوبات البدن”[14]
رابعًا: قالوا: «الولد إذا خرج طاهر لا يجب غسله بإجماع المسلمين وكذا البيض»[15] وقد خالطا تلك الرطوبة.
خامسًا: في الصحيحين أن عمر استفتى رسول الله r: “هَلْ يَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ “نَعَمْ. لِيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَنَمْ. حَتَّى يغتسل إذا شاء”.» ولم يذكر غسل الذكر، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإن قيل لا يلزم التنزه من النجاسة حتى تجب عليه الصلاة، فإن ترك غسل الذكر يلطخ الثياب والفرش. والوضوء نفسه المذكور في الحديث مستحب عند جماهير أهل العلم خلافًا للظاهرية، وما ذكروه من أمره بغسل الذكر في حكم الإكسال المنسوخ مع دعوى أن هذا الجزء من الحكم محكم، يجاب عليه بأنه بعد إيجاب الغسل، لم يؤمر أحد بالمسارعة إليه ولا إلى غيره. وغسله – صلى الله عليه وسلم – إياها من على بدنه لا ينتهض للوجوب وأمره بغسلها لمن أكسل في الجماع (قبل النسخ) لا ينتهض للحكم بنجاستها لقيام الداعي إليه، سواء كانت نجسة أو طاهرة، وقد يقال إن ما يصيب المرء في الجماع ليس رطوبة الفرج فحسب، بل ربما أصابه المذي الخارج للشهوة.
سادسًا: القول بنجاستها يدخل حرجًا ومشقة على كل بنات حواء، ومثله لا يكون في ديننا.
ويقال في الجواب على أدلة القائلين بالنجاسة:
أما تشبيههم إياها بالمذي، فضعيف، لأن المذي يخرج مع الشهوة، وقياس الشبه لا ينتهض لمثل هذا الحكم.
وقولهم إنها نجسة لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة منتقض بالمني والولد، بل قيل الأصل في رطوبات باطن البدن الطهارة، كما هو الحكم في البلغم. ولا ينبغي أن يكون الرحم والقرار المكين محلًا للنجاسة، وإن خرج منه دم الحيض النجس، ولذلك يقول الإمام ابن نجيم: “الريح الخارجة من الذكر وفرج المرأة، فإنها لا تنقض الوضوء على الصحيح؛ لأن الخارج منهما اختلاج، وليس بريح خارجة، ولو سلم فليست بمنبعثة عن محل النجاسة.” [16]
أما قياسهم وجعلهم النجاسة هي الأصل في الخارج من السبيلين، فمنتقض بالمني، والحصاة الخارجة منهما طاهرة في نفسها اتفاقًا، وإن تنجست بما حولها، وذلك عند خروجها من مخرج البول والغائط، لا من مخرج الولد (المهبل).
أما قولهم إن «رطوبة فرج المرأة- عندنا – نجسة لاختلاطها بالبول وغيره.»[17] فليس بسديد، لأن هذا سبيل ثالث، وفتحة مجرى البول منفصلة عن المهبل وفتحته.
- الكلام عن نقضها للوضوء
القول بأن نقض هذه الإفرازات الخارجة من باطن الفرج للوضوء هو قول عامة أهل العلم، سواء قالوا بطهارتها أو نجاستها، ولم يخالف في ذلك من الأئمة المجتهدين إلا ابن حزم. وقبل الشروع في الانتصار لقوله، تجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يصح – فيما أعلم – التصريح بنقضها للوضوء عن صحابي واحد، ولا تابعي واحد، بل ولا عن واحد من الأئمة الأربعة، وإنما نقل عن بعض الأئمة كلام في طهارتها ونجاستها. فقولنا “عامة أهل العلم” يقصد به المتأخرون منهم الذين نقل عنهم كلام في المسألة، وهو قليل، لذلك فإن زعم الإجماع هنا لا يسوغ التجاسر عليه أبدًا، فإن قال قائل لا أعلم مخالفًا قبل المعاصرين سوى ابن حزم، فهو أهون. أما مخالفة المذاهب الأربعة، فأمر من الخطر بمكان، ولكن إن كان في القول بعدم نقضها للوضوء مخالفة لها، وهو ما نناقشه هنا، فقد سبقنا إليه إمام مجتهد لا ينكر منصف سعة علمه ورسوخ قدمه وتبحره في معرفة الآثار والآراء، ثم إن ما اختاره هذا الإمام قد رجحه عدد من محققي علماء زماننا، بل خرجوه على مذاهبهم، فلا حرج علينا أن نقول به وندعو إليه، وإن خالف مذهبنا.
الأصح أن رطوبة الفرج لا تنقض الوضوء، وذلك لما يأتي:
- أن الأصل بقاء الوضوء الثابت حتى يأتي الدليل على نقضه. “قال أبو محمد: برهان إسقاطنا الوضوء من كل ما ذكرنا، هو أنه لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع بإيجاب وضوء في شيء من ذلك، ولا شرع الله تعالى على أحد من الإنس والجن إلا من أحد هذه الوجوه.”[18]
- وهذه الرطوبة مما تعم به البلوى ، وكانت أولى من الاستحاضة بالبيان من رسول الله r، ولم يأت فيها شيء فبقيت على العفو. ولا يصح عند أي عارف بالطب زعم بعضهم أن هذا نادر وإنما ابتليت به نساء هذه العصور المتأخرة فهذه الإفرازات كالمخاط ودمع العين وللمهبل حاجة إليها كحاجة القصبة الهوائية للبلغم.
- فإن قلنا إن القياس الصحيح حجة خلافًا للإمام ابن حزم، فأنى لنا بقياس صحيح هنا؟ قال الإمام القرافي: «… والقياس في التعبد متعذر لعدم العلة الجامعة.»[19] وقال أبو محمد– رحمه الله: “… قد وجدنا الخارج من المخرجين مختلف الحكم، فمنه ما يوجب الغسل، كالحيض، والمني، ودم النفاس، ومنه ما يوجب الوضوء فقط كالبول، والغائط، والريح، والمذي، ومنه ما لا يوجب الوضوء شيئا كالقصة البيضاء، فمن أين لكم أن تقيسوا ما اشتهيتم ، فأوجبتم فيه الوضوء دون أن توجبوا فيه الغسل قياسا على ما يوجب الغسل من ذلك، أو دون أن توجبوا فيه شيئا قياسا على ما لا يجب فيه شيء من ذلك.”[20] والإمام مالك – رحمه الله – لا يقيس الخارج غير المعتاد على الغائط والبول، فلا ينقض به الوضوء، لأن الحكم بالطهارة والنجاسة عنده تعبدي لا يتوسع فيه بالقياس، والاقتصاد في القياس من أصول مذهبنا الحنبلي في العموم.
وعلام نقيس؟
- على الغائط والبول، وأين الشبه بينهما وبين رطوبة الفرج التي لا تنفك عنها امرأة والتي حكم أكثر أهل العلم بطهارتها؟
- وأما القياس على الريح، وهي طاهرة، تخرج من الدبر فتنقض الوضوء، فهذا للنص، وكان أولى أن تقاس رطوبة الفرج على الريح الخارجة من القبل، لا الدبر، وهو لا ينقض الوضوء عند الحنفية والمالكية.
- فإن قلنا تقاس على الحصاة والدودة تخرجان من السبيلين فتنقضان الوضوء عند غير المالكية والظاهرية، فالجواب أن من سلم للأصل لا يلزمه القياس للفارق، فإن الدودة اختلفوا في نجاستها، وكلاهما يتنجسان بما حولهما لخروجهما من مجرى البول والغائط، وليس الأمر كذلك في رطوبة الفرج، فهذا وخالق الأكوان سبيل ثالث.
- إن كان قياسها على النجس الخارج من السبيلين لا يصح لعدم نجاستها عند الجمهور، فلم يقل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إن كل خارج من السبيلين ناقض للوضوء، إنما هو قول الشافعية والحنابلة، والله لم يتعبدنا بالضوابط الفقهية، إلا ما قام عليه منها الدليل. وهذا أيضًا مع اعتبار قبل المرأة سبيلاً واحدًا ، ولا يصح ، بل فتحة المهبل سبيل ثالث.
- ومن القواعد التي تشهد لعدم نقضها للوضوء “ما سكت عنه فقد عفا عنه” وقواعد “المشقة تجلب التيسير” وعموم البلوى وعسر التحرز: فإن التحرز منها وإيجاب الوضوء عند خروجها فيه حرج عظيم ومشقة على النساء. وجاء في فتوى العلامة مصطفى الزرقا – رحمه الله: “فإذا قلنا: إن هذا الطهر ينتقض به وضوؤها، فمعنى ذلك أنه لا يستقرُّ للمرأة وضوء!! وهذا أبعد ما يكون عما تتسم به الشريعة من اليُسر، ودفع الحرج.”
والآن نناقش ما قيل من اتفاق المذاهب الأربعة على نقض رطوبة الفرج للوضوء، ونحن هنا لا ندعي نقل المعتمد من هذه المذاهب، بل غاية ما نريده إظهار إمكان تخريج القول بعدم النقض على أصول بعضها.
أولًا: قول الحنفية:
أبدأ بتقرير أن تخريج عدم نقضها للوضوء على مذهب الحنفية هو ما قطع به علامة المعاصرين منهم الشيخ مصطفى الزرقاء – رحمه الله.
وقبل أن أترك المجال للعلامة المدقق ليعرض حجته أنبه على أن العلة في نقض الوضوء عند الحنفية هي النجاسة. وفي البحر الرائق:
“فالعلة للنقض هي النجاسة بشرط الخروج وتأيد هذا بظاهر الحديث «ما الحدث قال ما يخرج من السبيلين» فالعلة النجاسة، والخروج علة العلة، وإضافة الحكم إلى العلة أولى من إضافته إلى علة العلة”[21]
ثم زاد الإمام ابن نجيم الأمر وضوحًا، فقال: ” … وعلل في البدائع بكون الدودة ناقضة أنها نجسة لتولدها من النجاسة وذكر الإسبيجابي أن فيها طريقتين إحداهما ما ذكرناه. والثانية أن الناقض ما عليها واختاره الزيلعي، وهو في الحصاة مسلم ولا يرد على المصنف الريح الخارجة من الذكر وفرج المرأة، فإنها لا تنقض الوضوء على الصحيح؛ لأن الخارج منهما اختلاج، وليس بريح خارجة، ولو سلم فليست بمنبعثة عن محل النجاسة والريح لا ينقض إلا لذلك لا؛ لأن عينها نجسة؛ لأن الصحيح أن عينها طاهرة.” [22]
إن تبين لك ذلك، فهمت قول العلامة الزرقا حين يقول:
“سُئلت فيما مضى كثيرًا عن هذا الموضوع، وكنت أبيِّن شفهيًّا للسائلين من رجال ونساء أن هذا السائل اللّزِج الذي يخرج من المرأة في الحالات العادية (لا في الحالات المرضيّة)، ويسمِّيه الناس الطُّهر ـ ليس بنجِس شرعًا ولا ينقض وضوء المرأة، كما يقرِّره الفقهاء، ومن السائلين من يَستغرب هذا الجواب؛ لأنهم متصورون خلافه، ويتأكّد مني فأؤكد لهم.. كأنما كل ما فيه تيسير وتسامح ودفع للحرج والمشقّة فيما يتَّصل بواقع الحياة الطبيعيّة، يراه أناس غريبًا، حتّى كأن معنى الشريعة لا يتحقق إلا في الإرهاق والمشقّة، مع أن هذه الشريعة الغرّاء السمحة أساسها التيسير ودفع الحرج.
وأخيرًا جاءني سؤال خطِّي، ولم يقنَع صاحبه بجوابي، فطالبني بالمستند من النصوص! لذلك سأنقل الآن للحضارة، جوابًا على هذا السؤال، النصوص التالية:
قال في كتاب الطهارة من “الدر المختار” أول بحث نواقِض الوضوء: “وينقُضه خروج كلِّ خارج نجِس”. وقال أيضًا فى بحث الغسل: (صفحة 112 الطبعة البولاقية الأولى): “وسيجيء أن رطوبةَ الفَرج طاهِرة عنده”. أي: عند الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ خلافًا لصاحبيه . ثم أوضح ابن عابدين رحمه الله في الحاشية هنا أن محَلَّ الخلاف بين أبي حنيفة والصاحبين إنما هي رطوبة الفرج الداخلي ـ وهو الذي لا يجِب غَسله في حال لزوم الغُسل من الجنابة ـ أما رطوبة الفَرج الخارجي فهي طاهرة بالاتفاق؛ لأنها كرطوبة الفم والأنف والعَرق.”[23]
مذهب المالكية:
قرر الشيخ محمد ولد الحسن الددو أن الصواب في رطوبة الفرج عدم نقضها للوضوء، ففي فتاواه: «أنها لا تنقض الوضوء، وأن المرأة إذا التذت أثناء المداعبة فإن الراجح أن ذلك لا ينقض وضوءها مطلقاً إلا إذا حست بالإنزال، فإن أحست به وجب عليها الغسل، ولا يجزئها الوضوء حينئذ، وأما إذا لم تحس بالإنزال فمجرد رطوبة الفرج، إنما هي مثل ما هو في داخل البدن من الرطوبات كلها، وحكمها حكم ما كان داخل البدن من الرطوبات على الراجح.»[24]
وإنه وإن لم يبين في فتواه المختصرة تخريج ذلك على المذهب المالكي أو غيره، فإن هذا المذهب المبارك كان أولاها جميعًا بهذا القول، فالإمام مالك – رحمه الله – لا يقيس الخارج غير المعتاد على الغائط والبول، فلا ينقض به الوضوء، لأن الحكم بالطهارة والنجاسة عنده تعبدي لا يتوسع فيه بالقياس. والحدث الدائم في مذهب مالك كذلك لا ينقض الوضوء.
ولكن المالكية يرون نجاسة رطوبة الفرج، فهل كان ذلك عند بعضهم على الأقل لخطأ في تصور موضوع الحكم. إن قولهم «رطوبة فرج المرأة- عندنا – نجسة لاختلاطها بالبول وغيره.»[25] ليس وجيهًا، لأن مسلك الذكر ومخرج الولد غير مجرى البول.
المذهبان الشافعي والحنبلي:
جمعتهما هنا لأنهما متفقان إلى حد بعيد في النقض بكل خارج من السبيلين، وفي دليل الطالب:
«باب نواقض الوضوء. وهي ثمانية: أحدها: الخارج من السبيلين قليلا كان أو كثيرا طاهرا كان أو نجسا.»[26] وفي الزاد:
«ينقض ما خرج من سبيل»[27] وهو أقوى لأنه نص في كل سبيل، ولكن الأرجح أنه لم يقصد أن هناك ثلاثة سبل، فهم جميعًا يذكرون سبيلين، وأقوى من ذلك في مذهبنا ما جاء في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح: «وسألته عن امرأة يخرج من فرجها الريح
فقال ما خرج من السبيلين ففيه الوضوء»[28]. ولن أسعى إلى تخريج القول بعدم نقض الوضوء على هذين المذهبين المباركين، ولكن يمكن للمجتهدين فيهما فعل ذلك مع معرفتنا اليوم بالفروق التشريحية والوظيفية بين مخرج الولد ومخرجي البول والغائط، فيمكن التمسك بأصل النقض بكل خارج مع استثناء مخرج الولد من ذلك، فإن الأصل في القواعد والضوابط الفقهية سهولة الاستثناء منها حتى قرر كثير من أهل العلم أنها أغلبية، والصحيح أنها كلية مع قبولها للاستثناء، وهو لا يكون بالتشهي، لكن لمعارض راجح، والفروق بين رطوبة الفرج وغيرها مما يخرج من سبيلي الغائط والبول أكثر من أن تعد.
في خاتمة هذا الجواب، أقول للمرأة المسلمة التي تعاني من حرج هذه الإفرازات الطبيعية: ليس بك شيء، بل إن عدم هذه الإفرازات هو ما يستأهل القلق ومراجعة الأطباء. فإن رأيت منها شيئًا خرج منك، فالأصل خروجه من ظاهر الفرج، وهذا طاهر ولا ينقض الوضوء عند عامة أهل العلم، فلا تفتشي عن مصدره، فإن تيقنت من خروجه من باطن الفرج أو المهبل، فإنه أيضًا طاهر عند جمهورهم، فإن كان يخرج في نصف الأوقات أو أكثرها فلا ينقض الوضوء عند المالكية، وإن كان دون نصف الوقت، فلا ينقضه عند العراقيين منهم. وإن لم تكن إفرازاتك تخرج بصفة متكررة لتكون من الأحداث الدائمة، فيسعك أن تأخذي بما ذهب إليه الإمام الحبر البحر ابن حزم واختاره بعض المحققين من المعاصرين من أنها لا تنقض الوضوء في أي حال.
وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين
[1] “الإفرازات المهبلية.” مايو كلينك، 25 أبريل 2023، https://www.mayoclinic.org/ar/symptoms/vaginal-discharge/basics/definition/sym-20050825.
[2] تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي، الجزء ١، الصفحة ٣٠٠، لأحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (ت ٩٧٤ هـ). الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر لصاحبها مصطفى محمد، بدون طبعة، ١٣٥٧ هـ – ١٩٨٣ م.
[3] تحفة الحبيب على شرح الخطيب = حاشية البجيرمي على الخطيب، الجزء ١، الصفحة ١٠٨، لسليمان بن محمد بن عمر البُجَيْرَمِيّ المصري الشافعي (ت ١٢٢١هـ). الناشر: دار الفكر، بدون طبعة، ١٤١٥هـ – ١٩٩٥م.
[4] دار الإفتاء الأردنية. “العفو عن الإفرازات المهبلية في حالة المشقة.” موقع دائرة الإفتاء العام الأردنية. تاريخ النشر 2024. https://www.aliftaa.jo/fatwa/2024/العفو-عن-الإفرازات-المهبلية-في-حالة-المشقة
[5] منح الجليل شرح مختصر خليل، الجزء ١، الصفحة ١٠٨، لمحمد عليش. الناشر: دار الفكر – بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٤ هـ – ١٩٨٤ م.
[6] الفتاوى الكبرى لابن تيمية، الجزء ٥، الصفحة ٣٠٦، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (ت ٧٢٨هـ). الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٤٠٨هـ – ١٩٨٧م.
[7] المجموع شرح المهذب، الجزء ٢، الصفحة ٥٧٠، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت ٦٧٦ هـ). باشر تصحيحه لجنة من العلماء. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية، مطبعة التضامن الأخوي – القاهرة، عام النشر: ١٣٤٤ – ١٣٤٧ هـ.
[8] التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، الجزء ١، الصفحة ١٧٤، لخليل بن إسحاق المالكي المصري (ت ٧٧٦هـ)، تحقيق: د. أحمد بن عبد الكريم نجيب. الناشر: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، الطبعة الأولى، ١٤٢٩هـ – ٢٠٠٨م.
[9] الكافي في فقه الإمام أحمد، الجزء ١، الصفحة ١٥٦، لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت ٦٢٠هـ). الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٤١٤ هـ – ١٩٩٤ م.
[10] المجموع شرح المهذب، الجزء ٢، الصفحة ٥٧٠، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت ٦٧٦ هـ). باشر تصحيحه لجنة من العلماء. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية، مطبعة التضامن الأخوي – القاهرة، عام النشر: ١٣٤٤ – ١٣٤٧ هـ.
[11] الكافي في فقه الإمام أحمد، الجزء ١، الصفحة ١٥٦، لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت ٦٢٠هـ). الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٤١٤ هـ – ١٩٩٤ م.
[12] كشاف القناع عن الإقناع، الجزء ١، الصفحة ٤٥٩ (ط وزارة العدل)، لمنصور بن يونس البهوتي الحنبلي (ت ١٠٥١ هـ). تحقيق وتخريج وتوثيق: لجنة متخصصة في وزارة العدل. الناشر: وزارة العدل في المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، ١٤٢١ هـ / ٢٠٠٠ م.
[13] الروض المربع شرح زاد المستقنع – ط المؤيد والرسالة، الصفحة ٥٢، لمنصور بن يونس البهوتي. الناشر: دار المؤيد – الرياض، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٧ هـ – ١٩٩٦ م.
[14] المجموع شرح المهذب، الجزء ٢، الصفحة ٥٧٠ (ط المنيرية)، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت ٦٧٦ هـ). باشر تصحيحه لجنة من العلماء. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية، مطبعة التضامن الأخوي – القاهرة، عام النشر: ١٣٤٤ – ١٣٤٧ هـ.
[15] المجموع شرح المهذب، الجزء ٢، الصفحة ٥٥٦، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت ٦٧٦ هـ). باشر تصحيحه لجنة من العلماء. الناشر: إدارة الطباعة المنيرية، مطبعة التضامن الأخوي – القاهرة، عام النشر: ١٣٤٤ – ١٣٤٧ هـ.
[16] البحر الرائق شرح كنز الدقائق، الجزء ١، الصفحة ٣١، لزين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (ت ٩٧٠ هـ). وفي آخره: “تكملة البحر الرائق” لمحمد بن حسين بن علي الطوري الحنفي القادري، وعلى الحاشية: «منحة الخالق» لابن عابدين. الطبعة الثانية.
[17] التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، الجزء ١، الصفحة ١٧٤، لخليل بن إسحاق المالكي المصري (ت ٧٧٦هـ)، تحقيق: د. أحمد بن عبد الكريم نجيب. الناشر: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، الطبعة الأولى، ١٤٢٩هـ – ٢٠٠٨م.
[18] المحلى بالآثار، الجزء ١، الصفحة ٢٣٥، لأبي محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري [ت ٤٥٦ هـ]. تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري. الناشر: دار الفكر – بيروت.
[19] الذخيرة، الجزء ١، الصفحة ٢٣٦، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت ٦٨٤هـ). الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٤ م.
[20] المحلى بالآثار، الجزء ١، الصفحة ٢٤٠، لأبي محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري [ت ٤٥٦ هـ]. تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري. الناشر: دار الفكر – بيروت.
[21] البحر الرائق شرح كنز الدقائق، الجزء ١، الصفحة ٣١، لزين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (ت ٩٧٠ هـ). وفي آخره: “تكملة البحر الرائق” لمحمد بن حسين بن علي الطوري الحنفي القادري، وعلى الحاشية: «منحة الخالق» لابن عابدين. الطبعة الثانية.
[22] البحر الرائق شرح كنز الدقائق، الجزء ١، الصفحة ٣١، لزين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (ت ٩٧٠ هـ). وفي آخره: “تكملة البحر الرائق” لمحمد بن حسين بن علي الطوري الحنفي القادري، وعلى الحاشية: «منحة الخالق» لابن عابدين. الطبعة الثانية.
[23] فتاوى الزرقا، المجلد ٢٤، الصفحة ١. المصدر: جامع الكتب الإسلامية.
[24] «دروس» للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي، ١٢:٢٨ (بترقيم الشاملة آليًا). المصدر: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية. متاح على الرابط: http://www.islamweb.net.
[25] التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، الجزء ١، الصفحة ١٧٤، لخليل بن إسحاق المالكي المصري (ت ٧٧٦هـ)، تحقيق: د. أحمد بن عبد الكريم نجيب. الناشر: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، الطبعة الأولى، ١٤٢٩هـ – ٢٠٠٨م.
[26] دليل الطالب لنيل المطالب، الصفحة ١٤، لمرعي بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي (ت ١٠٣٣هـ)، تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي. الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤٢٥هـ / ٢٠٠٤م.
[27] زاد المستقنع في اختصار المقنع، الصفحة ٣١ (تحقيق العسكر)، لموسى بن أحمد الحجاوي المقدسي، ثم الصالحي، شرف الدين، أبو النجا (ت ٩٦٨ هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن علي بن محمد العسكر. الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض..
[28] مسائل الإمام أحمد بن حنبل – رواية ابن أبي الفضل صالح، الجزء ٣، الصفحة ١٩٧، (دلهي، الهند: الدار العلمية، الطبعة الأولى، ١٤٠٨ هـ – ١٩٨٨ م).